السبت 11/مايو/2024

خصوصية تاريخ فلسطين أنه يدخل في صلب معركة الصراع على فلسطين/ مقابلة

خصوصية تاريخ فلسطين أنه يدخل في صلب معركة الصراع على فلسطين/ مقابلة
لم تكن فلسطين أكثر البلاد التي واجهت تشويهاً مقصوداً لتاريخها فحسب؛، بل واجهت حرباً تقودها الدول الكبرى والمخططات الاستعمارية وربيبتها (إسرائيل) لقلب التاريخ.. من هنا كانت مهمة المؤرخين الفلسطينيين مضاعفة في صعوبتها ومفصلية في أهميتها.
هل استطاع الفلسطينيون رغم النكبة واللجوء تصويب حركة التاريخ وتوثيقه أم هل تحققت في فلسطين مقولة ((التاريخ يكتبه المنتصرون)).. إذا كانوا فعلاً منتصرين؟
حول هذه القضية وغيرها التقينا المؤرخ الدكتور محسن محمد صالح، مدير عام ((مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات)) في بيروت، وكان الحوار التالي:

– ما هي –برأيك– الأسس التي ينبغي أن تنبني عليها رؤيتنا لقراءة التاريخ؟
• المؤرخ كالنحلة التي تحتاج لرحيق ألف زهرة حتى تنتج قطرة عسل واحدة. وكذلك المؤرخ يجد أمامه كمّاً هائلاً من الأحداث والوقائع والإحصائيات والروايات، وهو عليه في النهاية أن يقدم خلاصات صحيحة ودقيقة للموضوعات التي يغطيها. وعندما نستقرئ التاريخ فإننا يجب أن نتحلى بأقصى درجات الموضوعية من حيث أمانة النقل، وعدم تضخيم أو تقزيم الأحداث، وعدم الدخول في أحكام مسبقة وعدم تقديم صورة مجتزأة أو منقوصة. ومن جهة ثانية يجب أن تكون قراءتنا منفتحة على الروايات المختلفة ومتعددة المصادر وتحاول الوصول دائماً إلى المصادر الأولية. ثم نقوم ثالثاً بالدراسة النقدية الواعية المقارنة من حيث تمحيص المعلومات وتدقيقها والقيام بعمليات ((الجرح والتعديل)) بشكل منهجي، سعياً للوصول إلى الحقيقة. ومن ناحية رابعة فإن علينا في دراستنا للتاريخ أن نبحث عن الظواهر العامة للأحداث، وأن نستجلي سنن الله في الكون، لنخلص إلى مواطن العبرة والفائدة، وإلى معايير وخبرات الاستشراف المستقبلي والتخطيط المنهجي.

– ما هي خصوصية تاريخ فلسطين؟ وما هي الأمور التي غفل أو تغافل عنها مؤرخو القضية الفلسطينية؟

• تكمن خصوصية تاريخ فلسطين في أنه يدخل في صلب معركة الصراع على فلسطين بين أهلها الشرعيين وبين الكيان الصهيوني الغاصب. وهو مرتبط بمعركة هوية الأرض ومن له الحق الشرعي فيها. ولا شك أن الادعاءات اليهودية الصهيونية في فلسطين مرتبطة بادعاءات دينية وتاريخية. والكيان الصهيوني يهتم بشكل هائل بالتاريخ والآثار، وتمكن مؤرخوه للأسف من تسويق الكثير من الافتراءات والتدليسات في العالم الغربي. وهو ما يستدعي جهوداً مضاعفة من المؤرخين الفلسطينيين والعرب والمسلمين لمواجهة تلك الدراسات المشوهة بدراسات علمية منهجية تنزع غطاء الشرعية التاريخية عن هذا الكيان.
من الصعب أن نقول أن هناك أموراً غفل عنها أو تغافل عنها مؤرخو القضية الفلسطينية، ولكن ربما كانت الإشكالية في كيفية تناول المؤرخين لأحداث التاريخ وأشخاصه، وفي تقديم التحليلات والاستنتاجات المناسبة. إذ غلبت على بعض المؤرخين أحياناً ميولهم الشخصية أو انتماءاتهم الحزبية. كما أثرت أحياناً أجواء خاصة على كتابة بعض المؤرخين لدراساتهم، كعيشهم أو عملهم في دول لها مواقف أو أيديولوجيات محددة، أو التزامهم بسياسات جهات التمويل، أو جهات الإشراف الأكاديمي… إلخ.
ولذلك مرَّت مراحل ظُلِم في الدراسات التي صدرت في أثنائها شخصيات مثل الحاج أمين الحسيني، أو عُتّم على حركات جهادية ذات طبيعة إسلامية كحركة القسام والإخوان المسلمين وغيرها.

– في كتابكم الشهير ((دراسات منهجية في القضية الفلسطينية))، ماذا أضفتم فيه لتاريخ فلسطين؟

• كتاب ((دراسات منهجية في القضية الفلسطينية)) حاول أن يقدم مدخلاً علمياً شاملاً ومحدّثاً للقضية الفلسطينية، وبأسلوب منهجي مرتب، يصلح لطلاب المرحلة الجامعية ولحلقات الدرس والمهتمين.
وكان هناك حرص أكيد على الموضوعية والتوثيق العلمي، كما أن الكتاب بلا شك عبّر عن روح تؤمن بالحق الفلسطيني العربي الإسلامي في الأرض المباركة. وإذا كان ثمة ميّزة لهذا الكتاب فهي الشمول والمنهجية، بحيث يستطيع الباحث أن يتعرف على كافة جوانب القضية في كتاب واحد.

– هل وُجّهت انتقادات لهذا الكتاب بعد صدوره؟

• لقي هذا الكتاب بفضل الله تجاوباً رائعاً فطُبعت منه عشرات الآلاف من النسخ في عدة طبعات في مصر والأردن وماليزيا، كما طُبعت منه طبعة إنجليزية مختصرة.
وبلا شك، لا يخلو أي كتاب من النقص والقصور، حيث استفدت من العديد من الملاحظات سواء من ناحية المعلومات أو تغطية المواضيع أو اللغة.

– أين تقع فلسطين من التاريخ العربي والإسلامي؟ وما مدى تأثير موقعها الجيوسياسي والديني في هذا؟

• الموقع الاستراتيجي لفلسطين باعتبارها في قلب العالم الإسلامي، وصلة الوصل بين جناحيه في آسيا وإفريقيا أعطاها أهمية كبرى. غير أن مكانة فلسطين الإسلامية الدينية باعتبارها أرضاً مقدسة ومباركة وأرض الأنبياء وأرض الإسراء والمسجد الأقصى، فضلاً عن مكانتها الدينية المركزية للنصرانية واليهودية لم يجعلها في مركز الاهتمام فقط بل في صميم الأحداث.
إن هذه ((المكانات)) والمزايا المختلفة جعلت فلسطين مطمعاً للكثيرين وساحة للصراع بين الأطراف المتنافسة سواء بسبب الادعاءات الدينية أو الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.
إن مشكلة فلسطين تكمن في ((جاذبيتها)) وفي ((كثرة الخُطّاب))!! و((طالبي القُرْب))!! وهو ما حوّلها عبر التاريخ إلى ساحة معارك ونزيف دماء بدل أن تكون أرضاً للسلام.
ولذلك لعلّ قدسيتها ومكانتها تكمن في أنها الأرض التي يُفصل فيها بين الحق والباطل، ولعلّ هذا سرُّ وعد الله المقيمين فيها وفي ثغور الشام بأجر المرابط المجاهد، وبأن معارك تاريخية كبرى حُسمت على أرضها كحطين وعين جالوت.

– أين أصابت القراءات السابقة للقضية الفلسطينية وأين أخطأت؟

• يكمن موضوع الإصابة والخطأ في الزوايا المختلفة وطرق التناول المتعلقة بهذه القضية، كما تكمن في مرجعيات التحليل والرؤى الفكرية والايديولوجية. وهو موضوع واسع جداً يصعب حصره في بضعة أسطر.
ومما يجدر التنبّه له مثلاً قراءة القضية في أبعادها المختلفة، أعني أبعادها الفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية بشكل متناغم متكامل. حيث وقع الكثيرون في أخطاء عندما قَصَروا هذه القضية على بعدها الفلسطيني المحلي مثلاً وأغفلوا الجوانب الأخرى.
كما يجدر التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها مدخلاً لاستنهاض الأمة، ومعياراً لالتزامها تجاه أرضها ومقدساتها وكرامتها، وكاشفاً للصادقين أو العابثين تجاه شعوبهم وأوطانهم. ولا ينبغي التعامل مع القضية (أو الشعب الفلسطيني) باعتبارها ورطة يجب الانتهاء منها، أو حلّها بالسرعة الممكنة، للتخلص من أعبائها وأثقالها.

– تطورت القضية الفلسطينية خلال قرن، وربما تغيرت وغيرت اتجاهاتها وولاءاتها، كيف تقرأ هذه التقلبات بالقياس إلى تجارب الشعوب؟

• تقلبات القضية الفلسطينية خلال قرن كشفت سلوك الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية، كما كشفت سلوك المجتمع الدولي. وأظهرت اتجاهاً عاماً يسعى لتصفيتها وإنهاء ملفاتها، كما كشفت مدى النفوذ والعلو الصهيوني وقدرته على قلب الحقائق، وجعل المجتمع الدولي يستسيغ الظلم، وإضاعة حقوق الشعب الفلسطيني.
لكن هذه التقلبات من جهة أخرى، كشفت أن الله سبحانه يرعى هذه القضية، وأنه كلما حاول أحد تضييعها أو تهميشها، كلّما ضاع هو، بينما تعود القضية إلى المربع الأول، ولتتصدر الأحداث واهتمام العالم عبر موجات الانتفاضة المختلفة والجهاد المتواصل لشعب فلسطين.
ستبقى قضية فلسطين مصدر إلهام واستنهاض للعرب والمسلمين، كما ستبقى العنصر الأساسي في عدم استقرار المنطقة، إلى أن يأذن الله بالنصر والتحرير.

– يتوازى ويتماهى تاريخ شعب فلسطين بثقافته وسياسته، وربما كان الفلسطينيون أكثر الناس اختلاطاً بين الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري، وتظللهم جميعاً النكبة، هل تعتقد أن تفكيك هذه المسارات يزيد من وضوح الرؤية واستشراف المستقبل؟

• ليس مجرد عملية التفكيك هي التي تزيد من وضوح الرؤية، وإنما الأهم من ذلك الاستفادة من القراءة التحليلية النقدية للعوامل المختلفة، وإعطاؤها أحجامها الصحيحة والطبيعية في مسار الأحداث والتأثير، واستجلاء العناصر الأكثر فاعلية في حركة التاريخ، سعياً للاستفادة منها في استشراف المستقبل وصناعته.
إن إنتاج ((فكرة)) أو ((توجّه)) صحيح قد تحتاج أحياناً إلى تفاعل المكونات المختلفة (ثقافية – سياسية – اقتصادية – عسكرية..) ولكن بطريقة سليمة واعية، لأن إنتاج ((التركيبة)) أو ((الوصفة)) الصحيحة يحتاج إلى الكفاءة والخبرة، وليس إلى مجرد ((خلطة)) يقدّمها منجّمون أو حُواة!!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات