السبت 11/مايو/2024

منظرو الرئاسة الفلسطينية والكيل بمكيالين

خليل الصمادي

لا شك أنَّ سياسة الكيل مكيالين معروفة قديما، لكنها برزت بقوة في قرننا الميلادي هذا بسبب الإحراج الذي وقعت فيه الدوائر الغربية في مواقفها من بعض  القضايا التي تعتبرها مصيرية كحقوق الإنسان، والديمقراطية، والعملية الانتخابية ، والإدانة، والاستنكار، وما شابه ذلك، ولسنا في عرض كيل الدول الغربية بالمكيالين اللذين تكيل بهما لعالمنا العربي والإسلامي ؛ ولكن ما يهمنا هنا في هذه العجالة، عدة أمور منها : أنَّ هذه الدول والمؤسسات الدولية مع الديمقراطية ومع الشعوب في اختيار من يمثلها، ولا سيما لدول العالم الثالث؛ إذ ترى هذه الدول إن سبب مشكلات هذه الدول وتخلفها في بعدها عن الديموقراطية، وفي عدم إجراء انتخابات حقيقية تفرز ممثلي الشعوب في مؤسسات البنى التحتية لكافة مؤسسسات الدولة ،بما فيها البرلمان، أو المجالس المحلية والبلديات وما شابهها، ولكن يبدو أن الكيل بمكيالين بدأ عندما اختار الشعب ممثليه الحقيقيين من الذين لا ترضى عنهم هذه المؤسسات وما الانتخابات الأخيرة في فلسطين إلا نموذجا على ذلك، وقبلها انتخابات الجزائر، ولبنان ومصر وغيرها من الدول التي وافقت على استحياء على رفع هامش الحرية قليلا استجابة للضغط الغربي، ونكتفي بعرض نموذجا واحد من الكيل ونترك القضايا الأخرى كقضية حقوق الإنسان ، وتقرير المصير، ومقاومة المحتل، والعتبير عن الرأي، وغيرها من القضايا الساخنة إلى أوقات أخرى.  

ويهمنا هنا أن سياسة المكيالين أصبحت نموذجا واضحا لكثير من السياسين العرب وغيرهم، وانتقل عدواها إلى عالمنا العربي، ولا سيما إلى الساحة الفلسطينية، فأصبحت ظاهرة للعيان لا تخفى على عامة الناس ، وقد أوقعت السياسيين في حرج كبير أمام أنصارهم، وخروجا من هذا المأزق أصبحوا لا يتحرجون من الكيل بمكيالين الأول مكيال خارجي ينفذ السياسات الدولية الجائرة، ومكيال داخلي محلي وهو خطاب تخديري يختلف كليا عن الممارسات التي تتم بالخفاء والعلن.
   
ولا يخفى على أحد أن حركات التحرر الوطني في العالم كافة قامت على أساس تحرير الأرض ومقاومة المحتل عسكريا وسياسيا وسلميا وبكافة أنواع النضال المشروع، وبما أن حركات التحرر الفلسطينية جزء من هذه الحركات فقد حشدت الناس على هذا البرنامج وبالفعل كانت من أقوى حركات التحرر العالمية أوصلت شكواها وعذاباتها وصوتها للعالم أجمع، ولكن ومنذ الخوض في ما يسمى بالعملية السلمية كان لزاما على حركة التحرير الفلسطينية ولا سيما حركة فتح أن تنبذ المقاومة والعنف وتهديد إسرائيل، بل وقامت بتعديل برنامج المجلس الوطني الفلسطيني من تحرير كل فلسطين إلى الاعتراف بإسرائيل.
 
لقد وقعت هذه القوى في مأزق وحرج كبيرين أمام شعوبها ومناصريها، ووجدت نفسها أمام حقيقتين إما أن تصارح شعوبها بالحقيقة، وإما أن تمارس سياسية الخداع ، ووجدت أن المكيال الثاني أقل ضررا – لا سيما أن المراقب الدولي يتفهم مأزقها ـ فما فتئت تكيل بهذا بالمكيال شعبيا ومحليا ،يناقض المكيال الأول، فالتغني بالأمجاد القديمة المستمدة من معاجمها القديمة وما تحتوي من وأغنيات تحريرية، وأناشيد نضالية، وخطب رنانة وشعارات براقة، صار أشد مما كان في سبعينيات القرن المنصرم!!
 
ففي الصحف والإذاعات المحلية يرى المراقب مفردات من قاموس التحرر والنضال والثورة والنصر لاحصر لها، بينما يرى وللسياسيين أنفسهم في خطابهم الدولي قاموسا آخر مملوءا بألفاظ السلام، والتعايش والحوار وحسن الجوار، والأمر الواقع، وما إلى ذلك.
 
لقد وقع منظرو هذه السياسات في حرج كبير أمام مؤيديهم ومناصريهم،  ففي الأخبار الأخيرة التي كشفت حجم المساعدات الأمريكية والإسرائيلية للرئاسة الفلسطينية، انبرى الناطقون والمحللون ينفون التهم ، ولكن يبدو أن الخرق اتسع على الراتق، فما عاد يفيد النفي فانبرى المحللون أنفسهم يبررون قبول المساعدات بما فيها السلاح بدوافع إنسانية!! وإذا اشتد الحرج يبررون سياستهم بمتطلبات الشعب الفلسطيني من فك الحصار والجوع والرواتب وكأن النضال أمسى دراهم ولقيمات يقمن صلب المواطن!!
 
 وفي إعدام الرئيس العراقي صدام حسين نجد العجب العجاب ففي حين أدانت حركة حماس عملية الإعدام  رسميا وشعبيا ،اتُّهمت من أعضاء فتح بالسكوت والرضى ، في حين أنَّ قيادة الرئاسة فتح أثرت الصمت عن التعليق رسميا، وحتى في خطاب الرئيس عباس عندما طالبته الحشود في خطابه الأخير برام الله ذكر صدام حسين عند الترحم على الشهداء لم يلتفت لمطالبهم بالرغم من إصرارهم المتكرر!! أليس هذا كيلاً بمكيالين؟ تأجيج في الشارع ومتاجرة بدماء صدام حسين وبيوت للعزاء في حين يتهرب القياديون من الترحم عليه !!
 
 وأما المصيبة الكبرى فاتهام من يقاوم المحتل بأنه عميل بالنسبة للمكيال الثاني، وإرهابي بالنسبة للمكيال الأول. ويسائل المراقب لمن العمالة في هذا الوقت؟ هل مقاومة إسرائيل عمالة؟ ولمن هذه العمالة ألإسرائيل التي تحارب المقاومين والشرفاء وتحاصرهم ليل نهار وصباح مساء وبمساعدة أكثر القوى المتنفذة في العالم؟
 
هذا رصد موجز لبعض الأوزان التي تكال بمكيالين والتي ما عادت تنطلي على أحد فقد نسي الكيالون أن عصر الحزب الواحد، الصحيفة الواحدة، والتلفزيون الواحد، والإذاعة الواحدة،قد ولى إلى غير رجعة، إننا في عصر الفضائيات والإنترنت السريع، فالعالم أضحى قرية صغيرة لا تخفى فيها الأخبار ولو لدقيقة فكما أن للمتحدث لسانا فللمعارضين ألسن تحاوره على الهواء، وتبين المستور وما خفي من الأمور العظيمة.
 
 لمَ لا يكون النهج بمكيال واحد؟ لمَ لا تُصارح الشعوب بأن عهد النضال والتحرير قد ولى من أطروحاتهم، وأنَّ عليهم التزامات أو ضغوطات فوق طاقتهم ، أو ما يجد المستشارون الإعلاميون من عبارات مقبولة لدى الشارع تقنعه أو تسكِّنه إلى حين، لأن المراقب المحايد لم يعد يثق بالمكيال الذي اتسع ثقبه.
 
* عضو اتحاد الكتاب والكتاب الصحفيين الفلسطينيين

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات