الأحد 12/مايو/2024

إيران: من منظور استراتيجي فلسطيني

نور الدين النابلسي

مثلت ثنائية التكتيك و الاستراتيجية التحدي الأهم أمام الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدايات الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولعل التداخل فيما بين المفهومين أفقد هذه القضية نقاطاً بالغة الأهمية في مجالي السياسة الخارجية و العلاقات الدولية. فمن أبرز الأمثلة على ذلك تقلب العلاقات الفلسطينية – السورية منذ عام 1976، والعلاقات الفلسطينية-الكويتية بمجرى أحداث عام 1990.

و إذ تصاعد في الفترة الأخيرة التعاطي السلبي الانفعالي مع الدور الإيراني في المنطقة و الترويج لنظريات التوسع الصفوي و التمدد الشيعي الأميركية، كان لزاماً التمعن في مفردات هذا الدور و الموقف الاستراتيجي الفلسطيني بعيد الأمد منه، مع ملاحظة أن منهج هذا التحليل يتمثل و بوضوح في قاعدتين أساسيتين:

1- الخصوصية الفلسطينية في تداول السياسة الدولية و التي تتطلب بالضرورة صياغة القدر الأكبر من التحالفات الدولية و خلق أوسع أرضية إجماع على المكانة القيمية و الأخلاقية للحق الفلسطيني.

هذه الخصوصية يجب أن لا تتحول إلى (فوبيا) من الانفتاح على أية دولة صديقة بحجة المحافظة على التوازن و عدم الانجرار في سياسة المحاور، فالتوازن الحيوي الديناميكي يقوم على تعقل الموقف الفلسطيني و حياديته في الصراعات الإقليمية و المحلية ، في مقابل أن يندفع هذا الموقف في كل المحافل التي تعطي الفرصة لاستقباله و القابلية غير المشروطة لسماع ما لديه.

2- قياس الموقف الاستراتيجي الدولي كموقف متكامل و متناغم مع لهجة الآخرين، بمعنى أنه لا يعقل أن نرفض اليد التي تمد لنا بغير شرط، كما لا يعقل في آن احتضان اليد القاتلة.

وعلى هذا يمكن القول أننا نريد المحافظة على مسافة واحدة من الدول العربية مثلاً ولكن لا يقبل مطلقاً مقارنة و مماثلة هذه المسافة بتلك من بريطانيا – صاحبة وعد بلفور المتجدد- أو من الإدارة الأميركية المحافظة التي ترى في التطرف الصهيوني شريكا و حارساً على نفوذها في المنطقة.

وملحقاً بهذه النقطة يجدر التمهيد بأنه لا يوجد اثنان يختلفان على أن إعدام الرئيس العراقي صدام حسين بجوهره و توقيته و شكليته الانتقامية المذهبية هو خطأ سيكلف مرتكبيه ( الأميركيين والإيرانيين وحتى الحكومة التابعة لهما) كراهية شعوب المنطقة وردة فعل سترد نفسها على توتير الساحة العراقية و اشتداد الطحن الأهلي فيها.

ولكن و في ذات السياق تجدر قراءة هذه الحادثة بحجمها الواقعي و بعدها التكتيكي باعتبار أنها استمرار لما يسكت عنه العرب منذ 2003 و هو الغزو الأميركي للعراق، وأنها أيضاً مقدمات لما سيتلو من توسع للإمعان الأميركي في حكم المنطقة بالقوة.

إذن و بإحكام المنطق يمثل كل ما ذكر مدخلاً عقلانياً لفهم الدور الإيراني دون أن نجعل من رد الفعل على لحظة تكتيكية معينة مفتاحاً للعب باستراتيجيتنا الوطنية بعيدة المدى.

إيران ومكونات القوة إقليمياً، حقيقة أم وهم؟؟

 

سطر الحكم الديني لنفسه بداية في إيران مع حلول العام 1979 بعودة الإمام الخميني من منفاه و نجاح الثورة الإسلامية في مأسسة نفسها بأنظمة حكم دستورية لا زالت مستمرة حتى اليوم بما فيها المرشد الأعلى و رئيس الجمهورية و مجلسي خبراء القيادة و صيانة الدستور و البرلمان. هذه المؤسسات بمجملها هي المكون الأول التي تمنح الدولة مناعة النظام السياسي و ممكنات ترجمة نفسه عملياً كقوة إقليمية بما حققه في السنين العشرين الماضية من استقرار و تداول سلمي للسلطة و رؤية واضحة للمصلحة القومية و سبل الحفاظ عليها. 

 هذه القواعد الصلبة للنظام قامت عليها حقائق اقتصادية و ديمغرافية عدة تقدمت بالبلد خطوة إلى الأمام، فهو بلد يتمتع بكتلة ديمغرافية متناسبة وحجمه الاقتصادي والجغرافي تتكون من 70 مليون مواطن، يساهم كل منهم –حسب أرقام 2005- بـ 2440 دولار سنوياً في الإنتاج القومي، ليبلغ حجم هذا الإنتاج 170 بليون دولار، حيث يحتل الاقتصاد الإيراني المرتبة العاشرة في اقتصاديات آسيا و أل-30 في اقتصاديات العالم بأسره. ولا ننسى أنه البلد الثاني من حيث قدرته التصديرية النفطية في منظمة أوبك و الثاني عالمياً من حيث احتياطي الغاز الطبيعي فيه.

مما سبق لا يكون غريباً دخول إيران التحدي النووي منذ العام 2000 في سعي لامتلاك التكنولوجيا النووية التي يجب الحذر والوعي جيداً بأن هذه التكنولوجيا لا تعني فقط القدرة على إنتاج كميات هائلة من الطاقة ولا حتى امتلاك القنبلة النووية فحسب، بل هو يشير و بكل خطورة إلى أن دولة خارجة عن الطوع الأميركي تحمل في مقوماتها إمكانيات اقتصادية و ديمغرافية هائلة كالتي تم ذكرها من الممكن أن تعمل تحت مظلة الردع النووي المتوافرة لديها لفرض سياستها الإقليمية وعلاقاتها الدولية دونما حساب للنفوذ الأميركي، وهنا تجب قراءة الفروق الشاسعة ما بين المثل الإيراني و ذاك الكوري الشمالي.

خلاصة المهم لفهم الدور الإيراني إدراك محسوسات القدرة الاقتصادية و العسكرية المهمة التي تدعم الوزن السياسي الحامل لروافع منافسة الدور الأميركي و تحديه في المنطقة.مع الانتباه لمحظور الانجرار إلى تضخيم الوقائع وكأن الإيراني لديه من المقدرات التي تمكنه من هزيمة الولايات المتحدة، وفي الجهة الأخرى عدم الانجرار أيضاً إلى تضخيم الوقائع و كأن الغول الأميركي هو قدر من المستحيل مواجهته. إنما هي عملية متحركة تراكمية تحكمها موازين القوى القابلة للتغير والتي تمكن إيران من لعب دور مهم و تنافسي ضمن توازنات المرحلة الحالية و قابلية تغيرها في المراحل التاريخية القادمة.

إيران، الولايات المتحدة و فلسطين… إن الصراع العربي-الإسرائيلي و بوصفه مركز التوتر في المنطقة وميدان الجهد الدبلوماسي و تنازع النفوذ الدولي يمثل المقياس و البارومتر الأبرز لموازين القوى وتبعات تغيرها المستمر سواء إقليمياً أم دولياً، فاتفاق أوسلو نتيجة سببية لترسخ هيمنة القطب الأميركي الأوحد في أواسط تسعينيات القرن الماضي، ورؤية الرئيس بوش في دولتين في فلسطين هي نتاج لإعادة تركيب الجغرافية السياسية في المنطقة بعد أحداث أيلول/2001، و من هذا المنطلق يصبح من الأهمية بمكان التدقيق في التغيرات التي تصاحب الدور الإيراني في هذا الصراع كاستحقاق لتنامي القوة الإقليمية الإيرانية.

 
فقد وضعت الثورة الخمينية نهاية لسجل طويل من العلاقات الوثيقة التي ربطت إيران الشاهنشاهية بالدولة العبرية،و أسست لمشهد تاريخي حافل بالتضامن مع الفلسطينيين؛ رمزياً ترسخ بيوم القدس الذي دعا إليه الإمام الخميني، وسياسياً بالترحاب الرسمي و التأييد الذي لقيه الراحل ياسر عرفات و صداقته الشخصية بالمرشد الأعلى، و ميدانياً بالدعم والتنسيق مع المنظمات الفلسطينية في لبنان قبل الحرب الأهلية من فرق الحرس الثوري الإيراني المتواجدة هناك آنذاك.

إلا أن هذه العلاقة أخذت منحى عكسياً مع اشتداد ضراوة الحرب العراقية-الإيرانية وبعدها الفتور الناجم عن توقيع اتفاق أوسلو، غير أن ما بقي حاضراً طوال هاتين المرحلتين هو الموقف الاستراتيجي الإيراني الذي ما زال مستمراً حتى اليوم كذلك بعدالة القضية الفلسطينية و الارتباط العضوي العميق بين المشروع الصهيوني كجبهة أمامية للإمبريالية العالمية وتحديداً (الشيطان الأكبر) الولايات المتحدة الأميركية. هذا الموقف تحديدا و ترافقه مع جملة مواقف إيرانية تمحور أبرزها حول مبدأ تصدير الثورة وأزمة رهائن السفارة الأميركية في طهران والتدخل الإيراني في لبنان ما بعد 1982عبر العناصر المدربة إيرانياً والتي كبدت الأميركيين و الإسرائيليين والفرنسيين خسائر فادحة ، مجمل هذه المواقف كرست العداء المؤسس على أرضية أيديولوجية جعلت من ثبات هذه الرؤيا صفة واضحة في السياسة الخارجية الإيرانية. مع ملاحظة أن كل هذا التوافق لم يترجم نفسه بمستويات متقدمة على شاكلة التبادل ثقافي أو التجاري أو تطور علاقات المنظمات الفلسطينية المختلفة مع إيران.

و من الجهة الفلسطينية شكل عامل التخوف من إزعاج النظام العراقي و أنظمة الخليج العربي عائقاً أول أمام التورط في تطوير العلاقات مع إيران، بالإضافة إلى العوامل المستجدة بعد عام 93 و المتمثلة بالتخوف الأكبر من إزعاج الإدارات الأميركية المتعاقبة الداخلة في عداء مستحكم مع النظام الإيراني.

ولكن و منذ العام 2001، ومع التغيير الجدي الذي شهدته السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة مضافاً إلى ذلك انسداد الأفق السياسي للعملية السلمية و اتساع النفوذ الإيراني بامتلاكه لممكنات القوة سابقة الذكر صار لزاماً على السياسة الفلسطينية توجيه دفتها بعيداً عن الرهان على الدور الأميركي أو الرغبة الإسرائيلية بتسوية عادلة للصراع، هذا التوجه وأمثاله في باقي دول المنطقة ( سوريا،لبنان..الخ) حفز الإدارة الأميركية على استخدام الخلاف العقائدي للترويج لنظريات التمدد الشيعي في المنطقة للدفع بالغالبية العربية (السنية) لتجاوز مصلحتها القومية و الوطنية بنبذ التغول الأميركي وإعاقة خلق جسور التواصل بين الأنظمة المتقاطعة حول مفاهيم الاستقلالية والسيادة التي واجهت إشكالات هذا التغول.

إن السلوك السياسي تجب مأسسته على المصلحة الاستراتيجية الفلسطينية التي تقول بتقاطع ثوابت هذه المصلحة و جوهر السياسة الخارجية الإيرانية و بالأخص في المرحلة الحالية التي تمنح إيران قوة دفع إضافية و تمنح القضية الفلسطينية الفرصة التاريخية للتحرر من براثن الوصاية الأميركية منذ عام 1993 لتكثيف هذه الإيجابيات في وجه الاحتلال الإسرائيلي.وتبقى مكامن الخلاف التاريخي الديني ما بين المذهبين السني و الشيعي مسألة حوار إقناعي تشكل فيه منهجية العلامة الداعية د.يوسف القرضاوي نقطة مضيئة يجدر بالجميع الاقتداء بها،لأنه لا يمكن أن يقبل التفكير الجمعي بمقاربة الإيراني (الشيعي) بالأميركي- الإسرائيلي ( المسيحاني).

مع وعينا لكل هذه المتناقضات يبقى التشديد المستمر على أن فهم و التعاطي مع متغيرات السياسة الدولية الموضوعية لا يغني مطلقاً عن امتلاك العامل الذاتي القادر على الحسم عبر وحدة الهدف الفلسطيني و أدوات عمله الاستراتيجية ليحفظ للنضال الوطني تراكميته وسيره للأمام.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

شهيد ومصاب برصاص الاحتلال في مخيم بلاطة

شهيد ومصاب برصاص الاحتلال في مخيم بلاطة

نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد شاب وأصيب طفل، صباح الأحد، برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحامها مخيم بلاطة شرق نابلس. وأفادت مصادر...

إصابة 3 مستوطنين بقصف المقاومة عسقلان

إصابة 3 مستوطنين بقصف المقاومة عسقلان

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب ثلاثة مستوطنين بجروح - فجر الأحد- جراء سقوط صاروخ أطلقته المقاومة الفلسطينية على عسقلان المحتلة. وقالت هيئة البث...