السبت 11/مايو/2024

تزييف الحقائق..وفن التلاعب بالعقول

بهاء فرح

ما من شك أنه كلما كان الشخص بعيدا عن موقع الحدث كان أبعد عن الوصول إلى الحقيقة كاملة، وكان من السهل على الجميع خداعه. وفي الفترة الماضية كان من السهل على كل الأطراف تزييف ما يجري في قطاع غزة، وإلقاء اللوم على الآخرين في تفجر الأوضاع هناك، ومحاولات تأزيم الوضع لخدمة أهداف شخصية.

قبل أيام كنت في حوار مع أحد قيادات فتح، وبعد نقاش مستفيض حول القوة التنفيذية ووصفه لها بأنها رأس الأفعى الذي يجب قطعه حتى يقضى على الفتنة في وطننا، رددت عليه قائلا إن وزير الداخلية لم يكن أمامه أي خيار إلا تشكيل هذه القوة، بعد أن رفض قادة الأجهزة الأمنية تنفيذ قراراته. وما أثار دهشتي أنه وبكل برودة أعصاب قال “لا تصدق وزير الداخلية، هذا الكلام غير صحيح”.

دائما كنا نسمع لما تقوله فتح، وما ينشره إعلامنا في تلفزيون فلسطين، وعندما نتحدث إلى الشخصيات الفتحاوية التي تتحرك بين الضفة وغزة يقال لنا لا تكتفِ بما تسمع عبر وسائل الإعلام أو ما يقوله لك الآخرون، عليك أن تقيّم بنفسك الأحداث من خلال الاطلاع عليها عن قرب، وهم يعلمون أنه من المستحيل الوصول إلى غزة والاطلاع على ما يجري عن قرب.

ولم يطل الوقت حتى انتقلت الصورة إلى الضفة، وبدأت الحقائق تتكشف، وأصبح من السهل معرفة من الصادق ومن الكاذب، وإن كان وزير الداخلية يتجنى على الحقائق، ويفتري على قادة الأجهزة الأمنية، وإن كانت القوة التنفيذية هي حقا رأس الأفعى الذي لا بد من قطعه، وإن كانت حماس تشوه صورة المقاومة وتستهدف قادتها بالأنفاق، أم أن هذه خرافات من نسج الخيال.

الصورة الأولى التي ظهرت أمام عينيّ كانت بحرق مقر المجلس التشريعي ومقر مجلس رئاسة الوزراء في رام الله، والاعتداء على مكاتب حركة حماس، بما فيها مكاتب الصحف والجمعيات الخيرية، ثم اختطاف النواب والموظفين والكوادر والشخصيات، وكل هذا قامت به عناصر من فتح والأجهزة الأمنية، فهذه أول صورة لحرص فتح على نظافة سلاح المقاومة.

وبعد ذلك وقبل أسابيع قليلة، ارتكبت مجزرة بحق المصلين في مسجد البيرة الكبير، والذين حاولوا إحياء ذكرى انطلاقة حماس، فأطلقت عليهم النيران واستشهد رجل مسن، وأصيب العشرات بجراح. لم يكن ذنب هؤلاء إلا أنهم شاركوا في إحياء انطلاقة حركة حماس، والتي هي الآن ركيزة هامة في الحكم في فلسطين، والبعض الآخر لا ذنب له إلا أنه أراد الصلاة، فهذه صورة أخرى لنظافة سلاح المقاومة في أيدي أبناء فتح.

ثم تلا ذلك إطلاق النار على محلات تجارية، وعلى جمعية لرعاية دور القرآن الكريم، ونادي صناع الحياة، ومكتب نواب التغيير والإصلاح، وعلى بيوت وسيارات شخصيات بعضها غير محسوبة على حركة حماس، ولكن جريمتها كانت إطلاق اللحى والالتزام بالصلاة. وإذا كان الناطق باسم فتح في الضفة يقول إن إطلاق النار على منزل العقيد غريب لم يكن استهدافا لنقطة عسكرية، نقول له إن إحراق جمعية الفرقان لرعاية دور القرآن لم يكن استهدافا لمستوطنة صهيونية، وصاحب محلات ضراغمة هو أيضا فلسطيني ومشهود له بالنظافة أكثر من غيره بكثير.

إذا كان لا بد من الحديث عن تشويه صورة المقاومة، وعن الاستخفاف بعقلية المواطن الفلسطيني، فهذا يدفعنا إلى الحديث عن الناطقين باسم حركة فتح، الذين لم يعدموا وسيلة في خداع الرأي العام، من خلال سرد قصص لا يتخيلها العقل، ولم نشاهدها في الأفلام البوليسية.

ولا أرى أن مثل هذه التصريحات التي تطلق هنا وهناك عن استهداف موكب الرئيس بأنفاق، لا يعدو كونه إعطاء إشارة خضراء بشن حرب على حماس من جديد، بذريعة الضربة الاستباقية أو لنقل هو تنفيذ للسياسة الأمريكية فيما يسمى “الحرب على الإرهاب”.

حماس في نظر الشعب الفلسطيني الذي انتخبها ليست إرهابية، ولا يمكن أن يسمح الشعب بأن تحارب حماس من قبل السلطة، وأن تعاد عقارب الساعة للوراء لتنفيذ ما كان ينفذ بحق أبناء الحركة في سجون السلطة. إلا أن التذرع بأن حماس تخطط لاغتيال رئيس السلطة ربما يخفف من غضب الشارع الفلسطيني في حال حدوث أي اعتداء على أبناء الحركة، وربما يعطي مبررات لأي اعتقال لدواع أمنية.

وقبل مدة ليست ببعيدة وجهت شخصيات مشهود بوطنيتها تحذيرا للرئيس عباس من وجود شخصيات ممن يحيطون به تخطط لإزالته من موقعه، وربما كان التحذير من وسيلة أخرى لإزالة عباس، إلا أن هذا لا يعني إلغاء الشك بأن هناك من هو مقرب من عباس يخطط لاغتياله عبر نفق ينسب فيما بعد لحركة حماس، وربما تستدعى لجنة تحقيق دولية على غرار ما جرى في لبنان، والمحكمة الدولية التي تشكلت للتحقيق في اغتيال الحريري، ورغم عدم الوصول إلى حقائق إلا أن أصابع الاتهام كلها توجه لمن هم ممن لم يحوزوا على رضى الإدارة الأمريكية.

هناك استخفاف بعقل الشارع الفلسطيني نعم، وهناك من يحاول تضليل الرأي العام، وهناك من يحاول تشويه صورة المقاومة، إلا أن من يسعى لذلك ليست حماس، إنما من يدعون الحكومة للاعتراف بإسرائيل، لسحب آخر ورقة حصانة لحركة حماس أمام شعبها، فعدم الاعتراف هو الذي أوصل حماس للحكومة، وعدم الاعتراف هو الذي أبقى الحكومة حية حتى الآن، والاعتراف هو الذي أسقط القيادة السابقة، وعدم الاعتراف هو آخر ورقة بقيت في يد الفلسطينيين في صراعهم مع الاحتلال، فالقضية الآن أصبحت شرعية الاحتلال أو عدمه.

الأصوات المتعالية هنا وهناك، ليست أكثر من شخصيات لم تجد وسيلة لتشهر بها أنفسها، وتصنع لنفسها صدى في الشارع الفلسطيني، إلا الطنطنة والصراخ عبر وسائل الإعلام، ولا يهم إن كان ما تثرثر به حقيقة أو نسجا من الخيال، فهي لن تجد من يحاسبها بعد ذلك.

واللافت أن كل هذه التصريحات النارية الصادرة عن ناطقي فتح تصدر في الفترة التي تسبق البدء في حوار وطني لتشكيل حكومة وحدة وطنية وإنهاء حالة الاحتقان في الساحة الفلسطينية، وكأن الهدف منها التغطية على فشل محتمل للحوار، وإلقاء اللوم مسبقا على حركة حماس التي تتهم بمحاولة اغتيال قيادات فتح.

الفترة السابقة شهدت هدوءا نسبيا في قطاع غزة، الأحداث المؤسفة لا زالت موجودة ولكن بنسبة أقل، وخطاب رئيس الوزراء لقي قبولا واسعا لدى الشارع الفلسطيني، إلا أنه- وكما يبدو- فإن شخصيات مستفيدة من حالة الغليان والتوتر لم يرق لها هذا الهدوء النسبي، وباتت تسعى للعودة للحالة السابقة من الاقتتال.

السبيل الوحيد لحماية الشعب الفلسطيني وحماية المقاومة، هو فقط بالاحتكام إلى العقل، وعدم التورط كثيرا في التصعيد الإعلامي، واستغلال حالة الهدوء في الحوار الجاد والبناء، وفتح القلوب، والجدية في السعي إلى ترسيخ أسس الوحدة الوطنية. أما الافتراءات والتصعيد الإعلامي، وقلب الحقائق ومحاولة تأليب الرأي العام، لا يمكن أن يفضي إلا إلى مزيد من الدم والاقتتال.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات