الثلاثاء 25/يونيو/2024

بعد الخروج من التاريخ: الجغرافيا صارت مهددة في العالم العربي

بعد الخروج من التاريخ: الجغرافيا صارت مهددة في العالم العربي

 

 

صحيفة الشرق الأوسط
 
ثمة سحابات داكنة تتجمع الآن في الأفق العربي، منذرة بهبوب موجة من الأعاصير التي من شأنها أن تؤثر على توازنات المنطقة وجغرافيتها السياسية. وليست هذه مجرد تنبؤات قد تصدق أو لا تصدق، لأن مختلف الشواهد تدل على أن الأعاصير قادمة لا ريب، ومن ثم فليس السؤال ما إذا كانت ستهب على البيت العربي أم لا، لكنه ينصب على التوقيت والمقاصد والآثار التي ستترتب على تلك الأعاصير. بكلام آخر، فإن النذر ظاهرة لكل ذي عينين، ومن ينكرها لن يختلف كثيراً عمن يدفن رأسه في الرمال، لكي لا يرى أو يسمع.

هذه الأيام، باتت الأخبار تحدثنا كل يوم عن إعداد لانقلاب عسكري في العراق، يطيح كل ما أقيم من أبنية ومؤسسات، ويقيم حكومة طوارئ تفرض سيطرتها على الجميع، بما يؤدي إلى استعادة الأمن، ووقف الانفلات الذي أثار ذعر الأميركيين، وزاد في خسائر جنودهم. الأمر الذي أصبح يهدد مستقبل الحزب الجمهوري، ويفقده تأييد الرأي العام في الولايات المتحدة. وهو ما ينذر بنهاية بائسة لإدارة الرئيس بوش والفريق المحيط به.

وفي حين تتواتر الأنباء عن الانقلاب المنتظر الذي يعد له الأميركيون في بغداد، تتناثر أخبار أخرى حول الفيدرالية ومقترحات تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، وحول الترتيبات التي تجري في منطقة كردستان لتعزيز موقفها في مواجهة السلطة المركزية. الأمر الذي استصحب تلويحاً بالانفصال، مع إشارات قوية إلى احتمال تفجير الصراع حول الاستئثار بنفط كركوك، واحتمال حدوث اقتتال شيعى ـ شيعى بين رعاة الفيدرالية ومعارضيها. وفي هذه الأجواء يستمر تساقط القتلى في التصفيات المتبادلة بين الشيعة والسنة، بأعداد غير مسبوقة. الأمر الذي يرسم صورة بائسة لمستقبل العراق، يبدو فيها ذلك البلد الكبير والعريق معرضاً للتآكل والانفراط، بعدما دمرت مرافقه وبنيته الأساسية، ونهبت ثروته باسم «التحرير!».

لبنان أيضاً معرض للانفجار، بعدما تعافى من تجربة الحرب الأهلية التي أغرقته في الدماء والأشلاء، قبل سنوات ليست بعيدة. ذلك أن تصريحات الزعماء السياسيين، وقادة الميليشيات تمارس الآن عملية «تسخين» تبعث على القلق. فهناك من يهدد بالاحتكام إلى السلاح، إذا لم تشكل حكومة الوحدة الوطنية، وفي المقابل هناك من يلوح بالسلاح ويجهز المتاريس ويعد الملاجئ، تحسباً لذلك اليوم الذي تشكل فيه حكومة الوحدة الوطنية. وهؤلاء يلوحون بالشارع، ولا يستبعدون حلول اليوم الذي يندلع فيه الحريق بحيث تطغى زخات الرصاص ودوي الرشاشات والمتفجرات على لغة الحوار. وفي حين يتراشق اللبنانيون فيما بينهم، تعبث مختلف الأصابع في الظلام، ما بين قوى كبرى لها حساباتها وأجندتها، وأطماع إسرائيلية مازالت ترى في لبنان باباً لتصفية ملفات عدة، بعضها مع سورية وحزب الله والبعض الآخر مع إيران.

المشهد في الأرض المحتلة يشكل وجهاً آخر للمتغير الذي طرأ على الجغرافيا السياسية للمنطقة. فقد استفردت “إسرائيل” بفلسطين، الضفة والقطاع، مستفيدة من أجواء الذهول والانكفاء العربيين، وأصبحت غاراتها واجتياحاتها وتصفياتها للكوادر، ولكل العناصر النشطة في مقاومة الاحتلال، من قبيل التمارين الروتينية التي تمارس كل يوم، جنباً إلى جنب مع تجريف الأراضي واستهداف البنى التحتية.

ولم تكن استباحة “إسرائيل” لمختلف الحرمات في فلسطين، هي أسوأ ما في الأمر، لأن الاعتياد على تمرير ما يجري في الأرض المحتلة واعتباره أمراً عاديا في العالم العربي، لا يثير احتجاجاً ولا غضباً، لا يقل سوءاً ولا بؤساً. ذلك الاعتياد الذي تجلى في استمرار صمت العواصم العربية، بات يغري الإسرائيليين ليس فقط بمواصلة قمع الفلسطينيين والتوسع في عمليات الاستيطان، وإنما أيضاً بسعيهم لتصفية القضية وإغلاق ملفها بالكامل.

خرائط السودان تتعرض بدورها للضغط والشد والجذب، الذي يستهدف إضعاف دور السلطة المركزية، وتفكيك البلد وتمزيقه من خلال تشجيع التمرد في شرقه وغربه وجنوبه، لكي ينفرط عقده، ويتم تدويل قضاياه، بما يستدعي دور قوى الهيمنة التي قد تتعدد أهدافها وتختلف، ولكنها تتفق في أمور عدة بينها الاستفراد بالسودان وتفتيت هويته والتمكن من ثرواته وإلغاء دوره، كبوابة عربية مطلة على أفريقيا، واستخدامه كورقة ضغط على العالم العربي، بدلاً من أن يكون عمقاً استراتيجياً له.

في الصومال الذي هو عضو في الجامعة العربية، دولة انهارت فيها السلطة بفعل صراعات داخلية لم تكن القوى الدولية بعيدة عنها. ومن تحت أنقاضها خرجت سلطة المحاكم الإسلامية لتتحدى حكومة انتقالية مدعومة من الغرب، فسيطرت قوات الأخيرة على العاصمة مقديشو، ومضت تبسط سلطانها على أنحاء البلاد حتى أصبحت على مشارف مقر الحكومة الانتقالية في بيداوة.

وفي هذه الأجواء، توترت العلاقة مع الجارة أثيوبيا التي حشدت قواتها على الحدود مع الصومال، وتتواتر الأنباء، مشيرة إلى أن القوات الإثيوبية تحركت لمساندة الحكومة الانتقالية التي أصبحت معزولة في معقلها، ومهددة بالسقوط بين لحظة وأخرى.

القاسم المشترك بين هذه النماذج، يتمثل في ثلاثة أمور:

أولها: أن كلاً منها يواجه أزمة مصير، في ضوئها يكون البلد أو لا يكون.

ثانيها: أن الأطراف الغربية موجودة في قلب الصراع.

ثالثها: أن كل حالة تواجه أزمتها وحدها ودون أي ظهر أو غطاء عربي.

وهذه النقطة الأخيرة هي التي تهمنا في السياق الذي نحن بصدده، لأن غياب ذلك الغطاء، بمثابة إشهار جديد لإفلاس النظام العربي وانهياره، على نحو يفتح الأبواب واسعة لتآكل جغرافية العالم العربي، بعدما نالوا حظهم الذي يستحقونه من جراء عهود التخلف والاستبداد، فانطبقت عليهم السنن وخرجوا من التاريخ!

لست أبرئ عوامل داخلية، أسهمت بدرجة أو أخرى في توتر الأوضاع وتوفير حالة القابلية للانفجار أو التآكل في العراق أو لبنان أو فلسطين، وكذلك السودان والصومال.

صحيح أن الاحتلال هو الذي غذى وحمى النعرات الطائفية والعرقية في العراق، ولكن من الصحيح أيضاً أن الأطراف العراقية التي تعاملت مع سلطة الاحتلال تبنت ذات الموقف وتفاعلت معه، بذات القدر، كما أننا لا نستطيع أن نبرئ الزعماء السياسيين في لبنان من مسؤولية توتر أجواء البلد والانطلاق من الحسابات الذاتية، الفئوية والطائفية، ضاربين عرض الحائط بالمصلحة الوطنية.

أما الصراع الحاصل في فلسطين بين السلطة والحكومة، فنحن نعلم جيداً أن ثمة طرفاً ثالثاً فيه، إسرائيلياً – وأميركياً في المقام الأول، إلا أننا نعي جيداً أيضاً أن أدوات ذلك الصراع فلسطينية بامتياز. ذلك حاصل أيضاً في السودان الذي لم تنجح حكومته في إقامة تحالف وطني يصد الغارات التي استهدفت البلد بأسره.حتى كانت الحكومة يوماً ما مستعدة للتلاقي والتنازل للحركة الانفصالية في الجنوب ورافضة للتواصل أو الائتلاف مع القوى السياسية في الشمال، التي سنفترض أنها أقرب إليها وواقفة في ذات مربعها. وهو ما أضعف موقف الحكومة وفتح شهية كثيرين للضغط عليها وابتزازها. أما الصومال فإن قادته والذين يتناوبون عليه منذ زوال نظام الرئيس سياد بري قبل عشر سنوات، هم المسؤولون عن كارثته، حين تنازعوا واقتتلوا فذهبت ريحهم ودمرت دولتهم.

ليس الأمر مقصوراً على عالم عربي يتفكك ويتآكل، ولكن أصداء انهيار النظام العربي دفعت بعض الكيانات الصغيرة إلى الاحتماء بالقوى الكبرى، حين لم تجد مظلة عربية حقيقية تحتمي بها. وبدا ذلك الاحتماء نوعاً من الارتماء سوغ القبول برذائل سياسية كثيرة، تمثلت في فتح بعض البلاد العربية للقواعد العسكرية الأجنبية التي يعرف الجميع وظيفتها واستخداماتها التي هي في النهاية ضارة بالمصلحة الاستراتيجية للعرب ومهددة لأمنهم القومي. كما فتح الباب لتعدد أنشطة ومهام المرتزقة الأجانب في أقطار عربية عدة.

هذا الانهيار كان له صداه السلبي الذي أثر على الوجود العربي في الخارج، فمن اجتراء على العرب ومقدساتهم، إلى ازدراء شبابهم بإخضاعهم للرقابة المستمرة في أغلب الدول الغربية، وحرمانهم من دراسة علوم بذاتها في جامعاتها، إلى ملاحقتهم وطردهم إذا تم اصطياد أية هفوة لهم، إلى إلقاء مئات من شبابهم في السجون الأمريكية العلنية والسرية دون محاكمة، ودون توفير أية ضمانات تحترم إنسانيتهم وتحمي أبرياءهم. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأننا قرأنا مؤخراً أن بلداً مثل النيجر قرر طرد 120 ألفاً من قبائل المحاميد العربية في أراضيه، وإن خفض الرقم في وقت لاحق.

ليست سهلة الإجابة عن السؤال: ما العمل؟

كما إنني لا اعرف ما هي الجهات أو الدوائر صاحبة القرار التي مازالت مشغولة بمستقبل العالم العربي وأمنه القومي، بعدما انتعش فكر الانكفاء في ظل الترويج المستمر لشعار «بلدنا أولاً»، الذي يعني بالتعبير الدارج «كل واحد يدبر حاله». مع ذلك، فإذا جاز لي أن أغامر بالتفكير بصوت عال في الموضوع، فإنني أدعو أولاً، إلى تبرئة الشعوب العربية، وعدم تعميم الاتهام والإدانة عليها. لأن أزمة الأمة العربية تكمن في النخب صاحبة القرار فيها، وما النظام العربي المتهالك الذي صرنا ننعيه في كل مناسبة إلا حاصل جمع تلك النخب. لذلك فإن «النظام» لن ينصلح إلا إذا انصلح أمر النخب المكونة له. إن شئت الدقة فقل إن إصلاح أمر الدول التي تشكل أعمدة رئيسية للنظام العربي، هو الخطوة الأولى لإحياء ذلك النظام واسترداده عافيته وهيبته.

في هذا الصدد فإنني ازعم بأن عافية النظام العربي وثيقة الصلة بمصير دعوات الإصلاح السياسي التي تتردد الآن بقوة في أرجاء العالم العربي. ولا أتردد في القول بأن نجاح الإصلاح السياسي (الحقيقي وليس المزيف) في أية دولة عربية سيكون أول ضوء أخضر، يسمح لنا بإمكانية التفاؤل، بحلول يوم تستطيع فيه الأمة أن تصمد أمام الأعاصير والمخططات التي تستهدفها. الأمر الذي يسمح لها ليس فقط بأن تحافظ على جغرافيتها، وإنما يسمح لها أيضاً بأن تعود إلى مجرى التاريخ.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

أبو مرزوق يلتقي بوغدانوف في موسكو

أبو مرزوق يلتقي بوغدانوف في موسكو

موسكو - المركز الفلسطيني للإعلام التقى الدكتور موسى أبو مرزوق، رئيس مكتب العلاقات الدولية في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الممثل الخاص لرئيس...