الخميس 09/مايو/2024

الأقصى مقابل المال..!!

د. عبد الستار قاسم
في حوار مع إحداهن حول مسألة اعتراف “حماس” بإسرائيل، سألتها عما يجب أن يكون موقف الفلسطينيين من مقايضة المسجد الأقصى بالمال، فأجابت ببيعه. تضع هذه الفتاة غطاء على رأسها، وتقيم الصلاة وتصوم رمضان، ولا مانع لديها أن تشارك في الرحلات الشعبية الجماعية إلى الأقصى، لكنها تريد من “حماس” أن تعترف بإسرائيل، ولا مانع لديها أن تتخلى عن الأقصى الذي ترتحل إليه مقابل المال. هذه حالة ليست فريدة الآن على الساحة الفلسطينية، وهي تشكل نموذجا لقطاع واسع من الجمهور الذي لا يرى منفذا أمامه نحو لقمة الخبز سوى المال الغربي والرضا الإسرائيلي.

بعض العرب والمسلمين يرون أنه من الضروري أن تعترف الحكومة الفلسطينية بإسرائيل، ظانين أن الاعتراف عبارة عن كلمات تقال دون تبعات إضافية. هنا أوضح الأمور التالية:

أولا: يترتب على الاعتراف بإسرائيل نزع سلاح “حماس” وتحويل الحركة إلى حزب سياسي، والعمل على نزع سلاح كل فصائل المقاومة الفلسطينية، وإقامة علاقات تطبيعية مع إسرائيل، والقبول بالشروط الأمريكية والإسرائيلية، والقيام بمهام أمنية بالنيابة عن إسرائيل وذلك دفاعا عن الأمن الإسرائيلي. هذه كلها أمور ترتبت على عرفات بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، وقد أقيمت الأجهزة الأمنية الفلسطينية لملاحقة من يسمون بالإرهابيين وللدفاع عن الأمن الإسرائيلي.

ثانيا: على ماذا سيحصل الفلسطينيون مقابل اعتراف الحكومة الحالية بإسرائيل؟ الجواب واضح من خلال ما حصل عليه عرفات مقابل هذا الاعتراف. أدى الفلسطينيون سابقا أغلب المتطلبات الإسرائيلية بما فيها اعتقال فلسطينيين متهمين بالإرهاب، والتنسيق الأمني مع إسرائيل بما في ذلك توفير المعلومات عن النشاطات الأمنية لفصائل المقاومة الفلسطينية مقابل رواتب لموظفين لا يقدم أغلبهم أي خدمة مفيدة للشعب الفلسطيني. مقابل ذلك أيضا، قضى عرفات سنيه الأخيرة منبوذا من قبل من ظن أنهم سيعطون الشعب الفلسطيني شيئا بالمقابل.

ثالثا: إذا كان على الحكومة الحالية أن تعترف بإسرائيل مقابل المال، فماذا يجب أن يكون موقفها إذا طلبت إسرائيل وأمريكا منها التخلي عن القدس مقابل المال، أو التخلي عن حق اللاجئين مقابل المال؟ هل يتنازل شعب فلسطين عن كل حقوقه إذا كان ذلك سيوفر الرواتب لموظفين فلسطينيين؟ علينا أن نتوقع أن الذي يطلب من الفلسطينيين موقفا الآن مقابل الرواتب سيطلب مستقبلا مواقف أخرى مقابل استمرار صرف هذه الرواتب، والفلسطيني الذي يرى عكس ذلك، لا يرى أبعد من رأس أنفه. أي أن الإرادة السياسية الفلسطينية ستصبح في كيس أصحاب المال.

رابعا: إذا طأطأت الحكومة الحالية رأسها الآن واعترفت بإسرائيل، فبناء على أي مبدأ أو برنامج سينتخب الفلسطيني في الانتخابات القادمة؟ طبعا سينتخب الفلسطينيون مستقبلا بناء على رغبة الممول وليس بناء على قناعات وطنية أو إسلامية، ذلك لأن التجربة تكون قد أثبتت أنه لا فرق بين هذا الفصيل أو ذاك، وأن الفصائل جميعها تنبطح في النهاية أمام قوة المال. أي أن الإرادة الانتخابية تصبح بلا معنى، ولا ضرورة عندها أصلا لإجراء انتخابات.
إذا اعترفت الحكومة الفلسطينية القائمة حاليا بإسرائيل، فإن أهل الغرب وإسرائيل سيصبحون على يقين بأن الفلسطينيين يتنازلون أمام المال، وأن المواقف يمكن ابتزازها بسهولة في كل مرة تُغلق فيها حنفية المال.

خامسا: يؤدي الرضوخ للشروط الغربية إلى مزيد من الانهيار في المعنويات الفلسطينية ذلك لأن الركوع أمام الآخرين أشد وطأة على النفس الإنسانية من الجوع. الجوع مؤلم، وشح المال يشكل ضائقة صعبة جدا، لكن الانحناء أشد إيلاما لأنه عبارة عن تمزق ذاتي واستمراء للذل وقهر للنفس، وتغييب للعقل. ولهذا من المتوقع أن يؤدي الاعتراف إلى المزيد من الخصومات الفلسطينية والتنافر والكراهية والأحقاد. يخطئ من يظن أن الانحناء أمام إرادة الغير يقود إلى وحدة الأمة، بل العكس هو الصحيح، وأولئك الذين يدعون “حماس” إلى الاعتراف بإسرائيل لا يدرون إلى أي هاوية يلقون بشعب فلسطين. وقد عبّر عن هذا الجهل شاب فلسطيني خرج من المعتقل الإسرائيلي بقوله “لص يطعمني أفضل من صالح لا يطعمني”. هذا تدهور أخلاقي مرعب لا يقبله إلا جاهل أو متآمر. ولنا أن نتصور كيف يمكن أن يكون شعب فلسطين إذا استسلم للصوص ونحى الصالحين جانبا.

ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية ليس وليد اللحظة، ورغبة قطاع واسع من الشعب الفلسطيني في التنازل لإسرائيل وأمريكا ليس طارئا. لقد بذلت جهود ضخمة من أجل إيصال الشعب الفلسطيني إلى هذا الموصول الذي تقف فيه امرأة تدافع عن مقايضة الأقصى بالمال. تم تدريب هذا الشعب على مدى أربعين عاما على التسول، وتم نفي فكرة الاعتماد على الذات عبر هذه السنين، وتم تدمير قواعد البناء الاقتصادي والنسيجين الأخلاقي والاجتماعي، ولا غرابة أن تصل ببعضه الأمور إلى حد خلع جلده تماما مقابل متاع دنيوي رخيص.

دعوت تلك الفتاة التي لا مانع لديها من بيع الأقصى لأن نعمل معا نحو تشجيع الإنتاج الفلسطيني والتخلي عن البضائع الإسرائيلية فقالت لي بأن نوعية المنتوج الإسرائيلي أفضل من نوعية المنتوج الفلسطيني والعربي، ودعوت ذلك الشاب الذي لا مانع لديه أن يأكل من كفي لص فقال لي بأنه فتحاوي حتى النخاع. وهنا أدعو الحكومة إلى تبني سياسة الاعتماد على الذات ما أمكن، وعلى الأصدقاء من العرب والمسلمين لسدّ الحاجة، ذلك لكي لا يصبح بيع الأقصى شعار المرحلة، واللصوصية أساس السلوك القويم، وآمل بألا تجيبني بأن الحصار شديد.

لم تتم حتى الآن دعوة الخبراء والمختصين لمناقشة سبل الاعتماد على الذات، ووسائل الخروج من الأزمة بقدرات ذاتية، لكن القيادات لم تدخر جهدا للمنابزة في وسائل الإعلام. حتى أن المشاريع المعلنة للنجاة من الحصار لم يناقشها أحد سوى الذين قدموها. ليس هكذا تُقاد الشعوب.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

هل أوقفت واشنطن تزويد إسرائيل بالأسلحة؟

هل أوقفت واشنطن تزويد إسرائيل بالأسلحة؟

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام بتصريح علني لافت، خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن الراعي الأول لحرب الاحتلال الدامية على قطاع غزة، يعلن فيه أن بلاده لن...