الأحد 16/يونيو/2024

المقاومة العراقية تغير قواعد السياسة والشرعية داخل العراق وخارجه

المقاومة العراقية تغير قواعد السياسة والشرعية داخل العراق وخارجه

ليس ثمة من شك بأن المقاومة العراقية للغزو الأنكلو – أمريكي قد فاقت كل التوقعات، توقعات السياسيين في لندن وواشنطن، وتوقعات العسكريين الذين خططوا لهذه الحرب، وتوقعات المراقبين من كافة الاتجاهات، بمن فيهم كاتب هذه السطور.

إن من السذاجة وخداع النفس أن يقال الآن في دوائر الدول الغازية أن هذه المقاومة قد أخذت في الاعتبار وأن العمليات العسكرية تسير طبقاً لما خطط لها قبل بداية الحرب. والأكثر تبسيطاً بالطبع أن تعزى المقاومة العراقية لمجموعات صغيرة من أنصار النظام.

هناك بالتأكيد عناصر ضمن القوى العراقية المسلحة أكثر ولاء للنظام من غيرها، وهناك بالتأكيد عناصر تمارس شيئاً من التهديد لمن يحاول ترك مواقعه أو من يرفض إطاعة أوامر قادته. ولكن ليس في كل هذا من غريب أو جديد على طبيعة الحروب، بما في ذلك الحروب التي تعتبر علامة فارقة في تاريخ أوروبا الحديث. لقد أعدم السوفييت عشرات الألوف من جنودهم خلال الحرب العالمية الثانية لهذا السبب أو ذاك، خاصة في ليننغراد وستاليننغراد، كما أن أهالي المدن الروسية وقوات الجيش الأحمر التي قاومت الغزو النازي تفاوتت في ولائها لستالين والدولة.

حقيقة ما يحدث في العراق اليوم أن العراقيين يقاتلون دفاعاً عن وطنهم بغض النظر عن موقفهم من النظام الحاكم، وهو ما شهده العالم في الاتحاد السوفييتي في الأربعينات وفي الشيشان قبل أعوام قليلة وفي جنين في مثل هذا الوقت من العام الماضي. هذه الحقيقة التي يرفض قادة الدول الغازية الاعتراف بها وضعت خطة الحرب في مأزق كبير. أما إن استمرت هذه المقاومة لشهر أو شهرين آخرين فستحمل في طياتها احتمال هزيمة حقيقية للولايات المتحدة.

 

بيد أن الأهم في هذا كله ليس الأفق العسكري البحت لهذه الحرب، بل الآثار السياسية لها. إذ مهما كانت النتائج العسكرية للحرب فإن المقاومة العراقية واسعة النطاق ومتعددة الأشكال، وفشل التوقعات التي روج لها المحافظون الجدد الصهاينة في البنتاغون حول انهيار سريع للدولة العراقية وقواتها المسلحة، قد فرضت إعادة اعتبار شاملة لمجمل الخارطة السياسية للحرب. فيما يلي بعض جوانب هذه المتغيرات السياسية الهامة.

 

أولاً، لقد بني مشروع الحرب، على الأقل من وجهة النظر الأمريكية، على أساس أن هزيمة العراق وتغيير نظامه ستكون مقدمة لإعادة بناء الشرق الأوسط كله ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، بما في ذلك إيران وأفغانستان وباكستان. بعد العراق، قال منظرو الحرب داخل إدارة بوش وخارجها، ستعمل الولايات المتحدة على إعادة بناء دول وشعوب وثقافات وتعليم وبنى اقتصادية في كل بلدان الشرق الأوسط، وسواء باستخدام القوة العسكرية المباشرة أو غير المباشرة. المقاومة العراقية قوضت هذا المشروع. والواضح الآن أن القوات المحتلة للعراق إن اختارت البقاء طويلاً ستقضي الوقت في مواجهة المقاومة العراقية التي قد تصبح سريعاً بؤرة جذب لآلاف المقاومين العرب والمسلمين. أما إن تطورت الحرب إلى مواجهة دموية في بغداد فإن النفوذ السياسي العالمي للولايات المتحدة سيكون في موقع التهديد. إن ما يحدث الآن ببساطة هو أن المشهد العراقي قد انقلب من توقعات النصر السريع للقوات الغازية والاستقبال الشعبي الترحيبي للغزاة وما كان يمكن أن يوفره ذلك من تهديد للإيرانيين والسوريين والمصريين إلى حرب دموية بطيئة ومقاومة عنيدة وفرت لشعوب ودول المنطقة الفرصة لإنذار الإدارة الأمريكية بعاقبة الأمور إن هي حاولت توسيع نطاق هيمنتها. بمعنى من المعاني، برزت المقاومة العراقية ليس فقط درعاً للعراق بل أيضاً كدرع لكل المنطقة.

 

ثانياً، ليس من الخفي بأن الكثير من الأنظمة العربية الحاكمة، من يشارك منها فعلياً في الجهد العسكري الأنكلو ـ أمريكي (مثل الكويت وقطر والبحرين والسعودية والأردن) أو تلك التي أحجمت عن المشاركة الفعلية، كانت تأمل بأن الحرب الأمريكية على العراق ستنتهي خلال أيام قليلة بهزيمة العراق وتغيير نظامه. كما قادة النظام الأمريكي الحاكم، ذهبت الأنظمة العربية إلى نومها مساء يوم 20 آذار (مارس) وهي تحلم بحرب سريعة ونظيفة، حرب تنتهي قبل أن تشعر الشعوب العربية بوقوعها ووقعها. إطالة أمد الحرب والاحتمالات المتزايدة بتحولها إلى حرب دموية تضع الأنظمة العربية الآن في واحد من أكبر واعقد المآزق التي واجهتها منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967. بعد أن فقد النظام العربي الرسمي الكثير من شرعيته ومسوغات وجوده بسبب عجزه الفادح عن التصدي للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وسلطة الحكم الذاتي، فإن هذا النظام يوشك أن يفقد ما تبقى من شرعيته ومسوغات وجوده بسبب تآمره على العراق وعجزه عن اتخاذ موقف جاد ومقنع من العدوان المستمر على الشعب العراقي. سيخرج النظام العربي الرسمي من هذه الحرب وقد سقط من اعتبار الشعوب وهبط إلى أدنى مستويات تأثيره في الساحة الدولية.

 

فيما يتعلق بكل دولة عربية على حدة، خاصة تلك الأقرب من ساحة الحرب وتلك المفترض أن تكون معنية بالوضع العربي ككل، فإن بعضاً من هذه الدول تقف الآن في موقف بالغ التعقيد والحراجة. من ناحية، ستساعد المقاومة العراقية للقوات الغازية على حماية الأنظمة العربية من الضغوط الأمريكية والمحاولات الأمريكية اللاحقة للتدخل في شؤون هذه الدول الداخلية. ومن ناحية أخرى، ستجد هذه الأنظمة نفسها في أدنى مستويات فقدان الثقة في علاقاتها مع شعوبها والشعوب العربية ككل. الشائع الآن أن الأنظمة الخليجية المشاركة في العدوان (إلى جانب الأردن) هي أكثر الأنظمة المتعرضة لتهديد عدم الاستقرار. ولكن هذا غير صحيح، فهذه الأنظمة قد خرجت من اعتبار الشارع العربي منذ زمن بعيد، وهي أنظمة هامشية من ناحية علاقتها بالرأي العام العربي. الأنظمة الأكثر عرضة للغضب الشعبي وعوامل عدم الاستقرار هي بلا شك أنظمة الدول الرئيسية التي كان الشارع العربي يأمل أنها ستقوم بمنع الحرب ويعتقد أنه كان بإمكانها ذلك.

 

ثالثاً، وهذا هو الأمر الأكثر أهمية على الإطلاق، إن المقاومة العراقية قد أعادت خلط أوراق الوضع السياسي العراقي الداخلي وأقامت أسساً جديدة لشرعية الدولة العراقية، بغض النظر عن القوة أو القوى التي ستحكم العراق في حقبة ما بعد الحرب. منذ اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية في 1980 وخلال ما يزيد على العقد من الزمان بعد حرب الخليج الأولى، تمحور التدافع السياسي في الساحة العراقية حول موضوعة بطش النظام وتحكمه وسيطرته، ووسائله الدموية في قمع المعارضة وتدميره لكل مقومات الحياة السياسية في البلاد. وبالرغم من تورط القوي الغربية الرئيسية في الكثير من الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي ضد شعبه، فلم يكن من المستغرب أن توظف شعارات عراق جديد ، عراق إنساني ، عراق ديمقراطي كمسوغات للحرب الحالية. ولم يكن من المستغرب بالتالي أن تقوم الإدارة الأمريكية بتقديم نفسها باعتبارها القوة الحليفة للمعارضة العراقية والقوة المنقذة للشعب العراقي. وإن تأكد في النهاية فشل القوى الغازية في العثور على أدلة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، فإن شعارات العراق الديمقراطي الجديد ستكون ما تبقى في يد الدول الغازية باعتبارها المسوغ الوحيد للحرب.

 

ما نشهده الآن هو انهيار هذا المسوغ ودفنه في صحراء جنوب العراق وعلى أبواب البصرة والنجف والناصرية. ثمة انتقال تدريجي وحثيث من حرب ضد النظام إلى حرب ضد العراق، من حرب إعادة بناء الدولة العراقية إلى حرب احتلال العراق، من حرب تحرير الشعب العراقي إلى حرب قتل وإهانة العراقيين جميعاً. إن الأهداف الحقيقية للحرب كانت دائماً تتعلق بالاحتلال والسيطرة، ولكن حرباً سريعة ونظيفة كان يمكن أن توفر للقوات الغازية الفرصة لتقديم العدوان والاحتلال والسيطرة في إطار من البناء الديمقراطي وحرية الشعب وتمثيله. هذه الفرصة الآن أصبحت شبه معدومة، وإن تواصلت المقاومة العراقية في محيط بغداد وشوارعها وأزقتها وتحولت الحرب إلى مجزرة دموية على طراز مجازر حروب النصف الأول من القرن العشرين، فإن الحكم العراقي الحالي سيكون قد حقق الانتصار على الغزاة وعلى من تحالف معهم حتى وهو يعيش حالة حصار عسكري داهم. ما يعنيه هذا باختصار شديد أن الحرب تجعل الآن من مقاومة الاحتلال الأجنبي للعراق الأساس الأهم لشرعية أي نظام حاكم للعراق سواء على مدى الشهور أو السنوات القليلة القادمة. وهذه المقاومة آخذة في الاندراج في إطار مقاومة عربية وإسلامية واسعة للسيطرة الأمريكية، ورفض عالمي لهذه السيطرة، مقاومة قد تتصاعد إلى أن تتحول مركز جذب للآلاف من العرب والمسلمين إلى ساحتها المباشرة وإلى محرض لحركة احتجاج عالمية الأبعاد على الحرب وعلى السياسة الأمريكية. لن يستطيع حاكم للعراق، حتى إن استمر بعض الحكام الحاليين في السلطة، أن يتمتع بأي مستوى من مستويات الشرعية بدون أن يجعل من مقاومة الاحتلال المبرر الرئيسي لوجوده. بغير ذلك سيكون على من يحكم العراق أن يوظف قدراً كبيراً من العنف والقهر ليفرض وجوده وموقعه، وهو ما لم يكن بالتأكيد ضمن منظور مشروع الحرب أو تصور إدارة بوش للعراق الجديد.

 

بكلمة أخرى، ربما ستنجح الحرب الدائرة الآن في تقويض العراق الجمهوري، عراق ما بعد تموز (يوليو) 1958 ولكنها تؤكد يومياً على فشلها في بناء العراق الذي خطط له قادة هذه الحرب. لا النظام الحاكم في بغداد، لا سيطرته ولا حزبه ولا بنيته أصبحت محل تساؤل أو ذات أهمية مباشرة في تحديد دينامية الصراع.

 

السؤال المهم الآن هو مستقبل الوطن العراقي، مستقبل منطقة القلب العربي – الإسلامي، ومستقبل مشروع السيطرة الأمريكية على مقدرات العالم.

 

وهذا ما سيجعل هذه الحرب مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك التورط الأمريكي الطويل، بل وإلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات