عاجل

الأحد 16/يونيو/2024

سقوط ريتشارد بيرل (أمير الظلام) .. الدروس و العبر

سقوط ريتشارد بيرل (أمير الظلام) .. الدروس و العبر

 أمين عام الشؤون الخارجية في مجلس النواب اللبناني

في غمرة كرة النار الأمريكية التي تضرب العراق بأحدث أسلحة القتل و أشدّها فتكاً ، “و أدقّها تصويباً” ، و في غمرة الانفجارات المدويّة للقذائف المتنوعة التي تحملها طائرات (ب 52) و سواها و صواريخ التوماهاك و كذلك قذائف دبابات و مدافع القوات الأمريكية – البريطانية ، كاد لا ينتبه أحدٌ إلى السقوط المدوّي لأحد صانعي هذه الحرب التي أرادها مقدّمة لإطلاق اليد الأمريكية ليس في الشرق الأوسط فحسب بل و على مساحة العالم . هذا الشخص هو ريتشارد بيرل المعروف بـ “أمير الظلام” ، الذي جذب إليه الانتباه و شد إليه الأنظار ، حتى أصبح و كأنه يقف خلف كلّ صغيرة و كبيرة في صنع السياسة الخارجية الأمريكية . مبعث اهتمامي في تناول هذه الشخصية ، هو أنه اعتبر أن العالمين العربي و الإسلامي “البطن الدولي الرخو” حيث تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية تعزيز سيطرتها دولياً” عبر ضرب العالم أجمع على معدته للأسباب التي تتعلق بالثروات البشرية و الطبيعية المعروفة و الكامنة في هذه المنطقة . و مبعث اهتمامي بسقوط هذا الرجل هو أنني لمست في تصوّره لمشهد العالم في القبضة الأمريكية أنه لا يراعي سوى جانب (إسرائيل) ، و أنه ينجذِب معها إلى أهدافها في إضعاف كلّ خصومها ، بدءاً بتحويل الحلم الفلسطيني بالعودة و تقرير المصير و إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس إلى دولة فلسطينية بشروط الأمن (الإسرائيلي) ، مروراً بسوريا و العراق و المملكة العربية السعودية و الجمهورية الإسلامية الإيرانية وصولاً إلى رفض “الفانتازيا” القائلة إن الأمم المتحدة هي أساس النظام الدولي الجديد . و عليه فإن الشعوب التي تستهدفها الحملة الأمريكية حسب مخطّط (بيرل) و من يمثّلهم ، تدين بسقوطه في العلن إلى الشراكة الأمريكية “غلوبال كروسينغ” التي كشفت انضمامه إلى فريق مستشاريها الكبار ، مقابل حفنة من الدولارات و هو الأمر الذي اعتبر خرقاً لقواعد الإدارة الفيدرالية الأخلاقية ، كما تدين بسقوطه إلى الصحافي المشهور سيمون هيرش الذي يواصل كشف النقاب عن عمليات الابتزاز التي مارسها (أمير الظلام) .

 

و ربما ندين في سقوطه أو ربما يدين لنا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الذي انتبه ربما قبل أو بعد فوات الأوان و بسبب الوقائع اليومية للحرب الأمريكية على العراق ، أن حساب الحقل لا يطابق حساب البيدر ، و أنه ضُلل و أن عليه أن ينتبه ، و لكن فيما بعد العراق لأنه تجاوز في المسألة العراقية نقطة اللاعودة . ماذا في الوقائع ؟ تمثّل استقالة أو إقالة ريتشارد بيرل من رئاسة مجلس سياسات الدفاع التابع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إشارة إلى انتباه الرئيس الأمريكي و لو بعد فوات الأوان ، إلى الفشل الفكري للترويج للسياسات الأحادية و المزاج التصادمي لاتجاهٍ ساد الإدارة الأمريكية و أدّى إلى شنّ الحرب على العراق حتى بدون تصريح مجلس الأمن الدولي .

 

و تشير هذه الاستقالة أو الإقالة إلى أن الرئيس الأمريكي بوش و إن كان عاجزاً عن تصحيح الموقف بإعلان وقف الحرب على العراق و العودة إلى الأمم المتحدة باعتباره قطع خط اللارجوع في شنّ الحرب ، إلا أنه اتخذ قراراً بتحرير نفسه من عصابة وزارة الدفاع أو الهتلريين الموعودين أو عصابة المرتبطين بالجريمة المنظمة (حسب وصف ليندن لاروش) ، هؤلاء الذين يقودهم نائبه ديك تشين من شركة (هاليبو رتون) و العصابة تضمّ في عضويتها إضافة إلى ريتشارد بيرل (أمير الظلام) وزير الدفاع دونالد رامسفيلد و نائبه ووليفونيز . كما اتخذ الرئيس الأمريكي قراراً بتحرير البنتاغون من هذه العصابة ، و إن كان بعد لم يصل إلى حد إقالة وزير الدفاع رامسفيلد بسبب الظروف الراهنة و انعكاس ذلك على الوقائع المتصلة بالحرب ضد العراق ، و الدليل على قرار بوش هو إعطاؤه “الخبز للخبازين” و العودة لتلزيم الجنرلات الحقيقيين ساحة الحرب في العراق ، و الانصياع إلى آرائهم في وقف و تعليق العمليات البرية و التقدّم العسكري نحو بغداد ، و إعادة انتشار “تحالف الراغبين” حتى يتم تحشيد المزيد من القوات و الأسلحة و  إعادة رسم خطط العمليات .

 

ما تقدّم لا يعني تبرئة الرئيس الأمريكي بوش من المسؤولية عن ما يجري في العراق بل تأكيد مسئوليته عن كلّ نقطة دمٍ تراق في هذه الحرب أو بسببها ، و عن التوتر في العلاقات الدولية و عن استتباعات و نتائج كلّ ذلك . فالرئيس بوش هو بالنتيجة سلطة القرار و كلّ من حوله يمثّل هيئة القرار أو الجهات التي عليها إنضاج القرار . و لكن مما لا شك فيه هو أنه سيأتي الوقت الذي يعلن فيه الرئيس الأمريكي بوش أنه ضُلّل ، و لكن هذا الأمر لا يمكن أن يتسامح فيه التاريخ و لا الشعوب ، و لكننا و قبل أن يأتي هذا الوقت الذي ستكون قد سالت فيه الكثير من الدماء فإننا لا نشك للحظة أن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني و وزير الدفاع رامسفيلد كانا يقودان اتجاهاً يعبّر عن الغطرسة و الاستخفاف ليس بالأمم المتحدة و منظماتها فحسب بل بموقع فرنسا و ألمانيا و روسيا و الصين في السياسة الدولية ، و يعبر كذلك عن الغطرسة و الاستخفاف بدول العالم الثالث و من جملتها العراق و ما تصفه الإدارة الأمريكية بـ “محور الشر” .  لذلـك فإن استقاله أو إقالة ريتشارد بيرل تمثّل اعترافاً “جلياً” بفشل اتجـاه “عصابة وزارة الدفاع” الفكري في الترويج للسياسة الأحادية و المزاج التصادمي المعبّر عن الغطرسة و الاستخفاف ، و باختصار المعبر عن اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية التحوّل إلى “إمبريالية أو امبراطورية” سائدة .

 

إنه لمن المهم جداً ملاحظة موقع ريتشارد بيرل في صنع و توجيه سياسات الإدارة الأمريكية في المرحلة السابقة للانتباه إلى معنى سقوط هذا الشخص . فقد قام دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي بتعيين ريتشارد بيرل مديراً لمجلس سياسات الدفاع التابع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) الذي أنشىء عام 2001 لتقديم دراسات استراتيجية بعيدة المدى ، مؤلّف من نحو ثلاثين خبيراً و عسكرياً متقاعداً و مسؤولين سابقين في أجهزة الاستخبارات و باحثين يعملون بشكلٍ تطوعيّ . و في تقرير من واشنطن يقول توماس جرجسيان إنه بالإضافة إلى مشاركة بيرل في اللجان الاستشارية للكثيرة من جماعات “اللوبي” – و يقصد اللوبي الصهيوني –و مراكز النفوذ و الضغط و معهد “إنتربرايز” الأمريكي فهو استشـاري في “الحلقـة الـذهبية” للجنـة الأمريكية مـن أجل لبنان الحر US COMMITTEE FOR A FREE LEBANON .

 

و كان المذكور قد عمل في عهد الرئيس ريغان في الثمانينات مساعداً لوزير الدفاع . و تقول التقارير الواردة من واشنطن إنه يعرف عن بيرل (61 عاماً) أنه حقّق لنفسه سمعة الرجل النافذ الذي لا يمكن تجاوزه في أوساط السلطة في واشنطن بعد سنوات طويلة أمضاها في مجالس إدارة عدة شركات غالباً ما كانت مرتبطة بالصناعات العسكرية . و نظـراً لأهميته (بيرل) في تحديد السياسات الأمريكية لقب المـذكور بـ “أمير الظلام” و استناداً إلى المنطلقات النظرية للحرب الأمريكية الراهنة ضد العراق يعتبر أحد الموجّهين لهذه الحرب و المدافعين بشراسة عن هذا التوجه .

 

من المعروف أن (بيرل) هو أحد المسؤولين عن اتجاه الإدارة الأمريكية الحالي لإعادة إنتاج النظامين العربي و الإسلامي . و يذكر أن (بيرل) و ثمانية آخرين أعدّوا عام 1996 ما يشبه وثيقة بعنوان (فرصة كاملة : استراتيجية جديدة لتأمين الحلم) تضمّنت التشكيك باحتمالات السلام و الاستقرار في الشرق الأوسط مع بقاء صدام حسين في بغداد و ياسر عرفات يقود الفلسطينيين عن طريق ما وصف بـ (العنف) . هل أن سقوط (بيرل) يعني سقوط و فشل التوجّهات التي يمثّلها ؟ على المستوى الأمريكي تمت استقالة أو إقالة بيرل لعدم امتثاله لقواعد الإدارة الفيدرالية الأخلاقية بعد أن كشف النقاب أن الشركة الأمريكية (غلوبال كروسينغ) العملاقة في مجال الاتصالات ضمته أخيراً إلى فريق مستشاريها الكبار في مقابل 125 ألف دولار ، و 600 ألف دولار أخرى في حال إتمام صفقة مع مستثمرين آسيويين ، و بعد أن طالب جون كونيرز النائب الديموقراطي في الكونغرس بفتح تحقيقٍ شامل في كل تعاملات (بيرل) في مجال “البيزنس” و ذلك في رسالة إلى المحقّق العام في “البنتاغون” .

 

هذا على المستوى المسلكي الأمريكي ، أما على مستوى الاستتباعات السياسية و العسكرية لهذه الاستقالة أو الإقالة فإنه و رغم إعلان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع قبول الاستقالة و إبقاءه على (بيرل) عضواً في المجلس الاستشاري للبنتاغون إلا أنه لوحظ أن جميع المحللين و المتصلين بوقائع الحرب الأمريكية على العــراق يحمّـلون رامسفيلد و فريقه أو بالأحرى (عصابة وزارة الدفاع) المسؤولية عن الاستراتيجية الفاشلة للحملة العسكرية على العراق و مسؤولية هذا الفـريق و فـي طليعتهم رامسفيلـد و بيـرل في الاستثمـار الخاطىء على مفهوم “الصدمة و الرعب” و الترويج أن الحرب الأمريكية في العراق ستكون نزهة للجنود الأمريكيين . و لوحظ كذلك أن رامسفيلد قلّل من ظهوره الإعلامي خصوصاً بعد أن تأكّد للبيت الابيض أن جنرلات البنتاغون كانوا على حق حين أكّدوا أن التفوّق التكنو – الإلكتروني لا يغني عن استخدام القوات البرية ، بل إنه يشكّل ضرورة لهذه القوات في تحقيق أهدافها العملانية .

 

على المستوى الدولي لوحظ أن الادارة الأمريكية التي أدارت ظهرها للمجتمع الدولي عادت و مع حليفتها بريطانيا لوصل ما انقطع مع منظمة الأمم المتحدة و مع عددٍ آخر من الدول و في الطليعة فرنسا . فقد تم التصويت في مجلس الأمن بالإجماع على استئناف العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء . و عادت حرارة الاتصالات نوعاً ما إلى العلاقات البريطانية – الفرنسية و الأمريكية – الفرنسية . إن العودة المتباطئة للولايات المتحدة إلى تحت مظلة الشرعية الدولية و التي تشبه الحركة المتباطئة المتثاقلة المتعثرة للقوات الأمريكية في العراق ، تشكّل اعترافاً بفشل النهج الذي قادته (عصابة وزارة الدفاع) و الذي عبر عنه (بيرل) قبل استقالته أو إقالته بمقالته بعنوان : وداعاً للأمم المتحدة . فقد كان ريتشارد بيرل في هذه المقالة أداة التعبير لجملة مـن المنظّرين لـ “الإمبراطورية أو الإمبريالية الأمريكية” التي عليها أن تقود الآمال بنظام عالمي جديد بطرق مختلفة ، ينطلق في كلّ مرة من “تحالف راغبين” يعتمد على الحتمية و الفعالية باعتبار ذلك هو البديل الحقيقي للفوضى و الفشل الكبير الذي تمثّله الأمم المتحدة . فالمذكور هو واحد من الذين كانوا يشجّعون انقلاب الإدارة الأمريكية على الأمم المتحدة ، على قاعدة أن احتكار الولايات المتحدة الأمريكية للقوة هو أمر يجب أن يؤدّي كنتيجة إلى احتكارها لسلطة القرار الدولي مع “تحالف راغبين” يتنوّع حسب المصالح التي تجمعهم مع

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات