مع الأسير محمد منصور القابع في سجون الاحتلال منذ 22 سنة

كغيرها من قرى فلسطين كانت قرية بلعا الشامخة تفخر برجالها وشبابها، تساهم في صنع البطولات والأمجاد.. هذه القرية المشهورة بثمارها الطيبة وعطائها وموقعها الاستراتيجي، فهي من أعمال طولكرم، وترتفع على تلة عالية، تعانق هواء فلسطين النقي، الذي يحمل بين نسائمه عبق وأريج أشجار البرتقال والليمون المنبعث من البيارات المجاورة على طول السهل الساحلي الفلسطيني.
ومما اشتهرت به قرية بلعا أيضا عطاء مجاهديها ومشاركتها الفاعلة في الانتفاضة ومقاومة الاحتلال. فهذه البلدة ولد وتربى فيها المجاهد الأسير محمد عبد الرحيم منصور “أبو منصور” الذي ضحى بزهرة شبابه من اجل رفعة الدين والوطن. فمنذ نعومة أظفاره وهو ينافح عن الحق الفلسطيني، إذ اعتقلته سلطات الاحتلال الصهيوني وهو في بداية العشرينات، بتهمة القيام بإعمال عسكرية ضد جيش العدوان.
المجاهد الأسير “أبو منصور” من مواليد عام 1960، التحق بالعمل الفدائي عام 1979 وقد تلقى تدريبه العسكري في معسكرات حركة “فتح”، حيث انتسب إليها وعلى وجه الخصوص في القطاع الغربي في الحركة. وقد كان أفراد هذا القطاع يمتازون بميولهم الدينية، فيما قام جهاز الموساد الصهيوني بتصفيتهم الكثير من قادتهم، كما هو الحال مع المجاهدين حمدي سلطان وأبو حسن بحيص والكيالي الذين تم اغتيالهم في مدينة ليماسول بقبرص.
بدايـة العمـل
يقول الأسير أبو منصور إنه جرى تكليفه من قبل القطاع الغربي وقيادته العسكرية بتجنيد أفراد للثورة، وتنفيذ عمليات عسكرية ضد مصالح صهيونية حيوية داخل الخط الأخضر، حيث قام بالاعداد لعملية تفجيرية داخل المحطة المركزية في تل ابيب، ونجح في زراعة عبوة، إلا أنه تم اكتشافها قبل تفجيرها، غير أنها انفجرت اثناء تفكيكها من قبل خبير متفجرات صهيوني، أصيب إصابات خطيرة جداً. عقب ذلك تم اعتقال المجاهد أبو منصور، وذلك عام 1985. وحكمت عليه المحكمة العسكرية الصهيونية بالسجن 25 عاماً. لكنّ ذلك الاعتقال لم يكن الأول، إذ سبق وأن تم اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال في بداية عام 1983، وحكم عليه بالسجن لمدة عام ونصف.
رحلة التحقيق والتعذيب
خاض أبو منصور معركة شرسة مع محققي جهاز المخابرات الصهيوني الداخلي “الشاباك”، فقد تعرض للتعذيب الجسدي العنيف، الذي بدأ بالشبح لمدة ساعات طوال، وتعرض للضرب المبرح والحرمان من النوم وعدم تقديم الطعام والشراب له، حتى فقد السيطرة والتوازن.
ويروي أبو منصور ما حصل له بالقول “كان اعتقالي في شتاء عام 1985م، وقد أُخضعت للتعذيب والتحقيق الشرس في شهري كانون ثاني/يناير وشباط/فبراير، حيث البرد والمطر والثلج والصقيع، وكان محققو الشابك يتعمدون نزع ملابسي، بحيث يجري التحقيق معي وأنا أرتجف من البرد، وأبقى وأنا شبه عارٍ عدة ساعات في الهواء الطلق وتحت المطر، هذا بالاضافة إلى تشغيل مكيفات هوائية باردة موجهة إلى جسدي زيادة على برد الشتاء، الذي يلفحني.
ويمضي أبو منصور قائلا “كان التحقيق والتعذيب يتواصل معي حتى أفقد القدرة على الاحتمال والصبر.. بل أفقد اعصابي أيضاً. وقد تمكن المحققون جراء ضغوطاتهم الجسدية والنفسية التي تمارس ضد المعتقلين من قتل بعضهم، حيث استشهد العديد من المجاهدين والمناضلين جراء ذلك في زنازين الاحتلال وخلال التعذيب والشبح وغير ذلك”.
الانتماء داخل المعتقل
حول التوجه السياسي والانتماء داخل المعتقل؛ يقول أبو منصور “منذ انتهائي من التحقيق ودخولي إلى المعتقل رفضت الالتزام بحركة فتح، لأنني كنت قد توصلت إلى قناعة في فترة سجني الأولى بأن قضية فلسطين هي قضية عقائدية، وأنها لن تحل إلا من خلال الإسلام”.
ويضيف أبو منصور “لكنّ المشكلة والمعضلة في تلك الفترة أنه لم تكن هناك حركات إسلامية واضحة المعالم، ترفع راية الجهاد بصورة منهجية، علما بأنّ الشيخ أحمد ياسين رحمه الله وإخوانه كانوا في تلك الفترة معتقلين في سجون الاحتلال، لكن الوجود الإسلامي التنظيمي داخل المعتقلات والسجون لم يكن موجوداً، أو على الاقل علنياً تحت مسمى صارخ وواضح، وإنما كان هناك تجمع وتيار يطلق عليه اسم الجماعة الإسلامية، وهو عبارة عن إطار يضم الملتزمين إسلامياً”، إضافة إلى انصار ومؤيدي التيارات الإسلامية المعروفة.
ويشرح الأسير محمد عبد الرحيم منصور ملامح تلك المرحلة مضيفاً أنّ “الجماعة الإسلامية هذه لم تكن منتشرة في كل السجون، وذلك بسبب محاربتها من قبل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة حركة فتح، التي كانت تخشى من تنامي هذا التيار وتأثيره على السجناء الفلسطينيين، حيث كانت فتح تمارس صنوفاً من الممارسات والضغوط ضد كل من يحاول الانتقال من فتح إلى الجماعة الإسلامية، إذ تصل هذه الممارسات إلى حد الردع الجسدي المؤلم”.
ويتابع أبو منصور قوله “ظل حال الحركة الأسيرة الفلسطينية في سجون الاحتلال على ما هو عليه إلى أن انفجرت الانتفاضة المباركة وتأسست حركة حماس، حيث ظن أبناء فصائل المنظمة أنّ حماس ظاهرة رافقت الانتفاضة وستنتهي، ولكنّ الحركة كانت أعمق من ذلك، حيث تطورت وتصاعد عطاؤها ودخل مجاهدوها بالآلاف في سجون الاحتلال، وأصبحت فصيلاً رسمياً داخل السجون والمعتقلات، له دوره وتأثيره”. ويقول أيضاً “مع تنامي عمليات حماس ومقاومتها الفاعلة على كافة الصعد؛ ازدادت حملات الاعتقالات في صفوفها، وبدأت كافة المعتقلات والسجون تستقبل أفواجاً كبيرة من أسرى الحركة، حتى باتت حماس في بداية التسعينيات التنظيم الثاني داخل السجون الصهيونية، وبعد (اتفاقات) أوسلو أصبحت التنظيم الأول”.
ويشير أبو منصور إلى أنه منذ أن أسست حماس تنظيمها داخل السجون؛ صار أحد أبرز العاملين في صفوفها، بل أصبح أحد قادة الحركة الأسيرة ممثلاً عن الحركة. إذ عمل محاوراً وممثلاً لحركة حماس أمام الادارة الصهيونية، خاصة وأنه يتمتع بمعرفة جيدة باللغة العبرية، إلى جانب العمل في الهيئات التنظيمية للحركة داخل السجون.
مواقف محزنة
رغم رحلة الاعتقال القاسية وسنوات التغييب عن الحياة والأهل، والتي شكلت تراكمات نفسية مؤلمة في حياة الأسير الفلسطيني؛ إلاّ أنّ ثمة أحداثاً قد تحصل خارج السجن فيصبح الألم والهم مزدوجاً. ذلك ما يسجله الأسير أبو منصور قائلاً “لقد تلقيت خبر استشهاد شقيقي كالصاعقة، وذلك في الانتفاضة السابقة عام 1988م، إذ تألمت له كثيراً، خاصة وأنني لم أتمكن من رؤيته ووداعه ولم أشارك في جنازته بسبب الاعتقال”.
ويستذكر الأسير محمد عبد الرحيم منصور أيضاً أنّ الحال “لم يكن أقل تاثيراً عندما تلقيت خبر وفاة والدي عام 1994م، واستمرت المآسي تتراكم وتتواصل، حتى جاءني خبر وفاة والدتي عام 2001م، وهكذا كانت رحلة الاعتقال كتلة من العذاب والألم، أحملها في أعماقي وعلى كتفيّ صباح مساء”، وقال “أتذكر والدتي التي طالما كانت ترغب أن تضمني إلى صدرها، وأتذكر والدي وشقيقي الذي حرمني الاحتلال من رؤيتهم والعيش معهم، إنها مواقف محزنة ومؤلمة سطّرت في أعماق ملحمة صمود وبطولة وإباء، رغم الالم الذي يعتصرني”.
ويضيف أبو منصور قوله “رغم كل ذلك؛ فإنني مفعم بالعزة والشموخ والكبرياء، فأنا مجاهد قدم نفسه وشبابه وحياته من أجل أمته ووطنه وشعبه، إضافة إلى قناعتي التامة بأنّ فلسطين المباركة تستحق منا أكثر من ذلك بكثير”.
هل أهمل عرفات الأسرى؟
ويشير أبو منصور إلى “مرحلة أوسلو” التي لوح القائمون عليها بأنها ستبيض السجون والمعتقلات، حيث انبعث شيء من الأمل في نفوس العديد من الأسرى والمعتقلين، ولكنّ هذا الأمل تبدد عندما شعر الأسرى، وخاصة أصحاب الأحكام العالية، أنّه وفق معايير الإفراج سيكون من المستحيل إطلاق سراحهم، وأنّ هناك “ثمة مؤامرة على أصحاب المؤبدات وأنصار الحركات الإسلامية تحت حجة أن هؤلاء الأسرى يعادون السلام ومسيرته، وقد جرت الصفقة دون أن يتم الإفراج عن أسرى حماس والجهاد الإسلامي”.
ويرى الأسير أبو منصور أنّ رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات لم يكن مهتماً بملف الأسرى، ولم يكن معنياً بالإفراج عن الجميع، خشية أن يؤدي ذلك إلى اختلال في الميزان التنظيمي والسياسي في الشارع الفلسطيني، حسب استنتاجه، مشيراً إلى أنّ الجانب الصهيوني كان ينتظر الكثير من المطالب الفلسطينية حول قضية الأسرى، وأنّ رئيس حكومة الاحتلال الأسبق شمعون بيريز كان على استعداد كامل للإفراج عن بقية الأسرى، إلا أنه أكد في أكثر من تصريح أنّ القيادة الفلسطينية لم تكن معنية بالجميع.
استثمار الوقت داخل السجن
يؤكد الأسير المجاهد أبو منصور أنّ بمقدور كل أسير أن يستثمر وقته، وأن يحقق الكثير من الإنجازات على صعيد تنمية عقله وفكره وثقافته، مشيراً إلى أنه كان خلال رحلة الاعتقال قد شغل نفسه بتعليم زملائه الأسرى اللغة العبرية والإنجليزية وكذلك الدراسات الإسلامية والتاريخية والسياسية.
ويضيف قائلا “لقد التحقت بالجامعة العبرية وحصلت بالانتساب على بكالوريوس في العلوم السياسية، وبدأت بدراسة الماجستير وأنا في السجن، لكن ظروف الاعتقال والاوضاع التي تمر بها الحركة الأسيرة لم تسمح لي بمواصلة الدراسة”.
زملاء ورفاق الاعتقال
لعل أعظم ما يعزي الإنسان في رحلة الأسر الطويلة، لقاءاته المتكررة مع الآلاف من الأسرى الفلسطينين، لا سيما القادة والرموز من سياسيين وعسكريين وعلماء من أبناء شعبنا الفلسطيني المقاوم، وهو ما يتيح التأسي بهم والتواصل مع أفكارهم ورؤاهم، كما يشرح الأسير أبو منصور.
فقد التقى أبو منصور، كما يروي، بالقائد الشهيد الدكتور إبراهيم المقادمة، وذلك خلال السنوات الأولى من الاعتقال، حيث كان لهذا اللقاء الأثر الكبير في صقل نفسية وشخصية الأسير أبو منصور نحو الاقدام والتحدي والمواجهة.
وحول هذا اللقاء يقول أبو منصور “التقيت بالدكتور المقادمة، فكان مثال الأخ المجاهد الصابر، الذي كان يقضي جل وقته في المطالعة والتأليف”. ويضيف قوله “التقيت أيضاً خلال رحلة الاعتقال بالأخ المجاهد المهندس إسماعيل أبو شنب، الذي كان يعمل على مدار الساعة في خدمة إخوانه وحركته، سواء على صعيد التثقيف أم إدارة الشؤون التنظيمية”. ويشير أبو منصور إلى أنه التقى أيضا بالقائد الشهيد صلاح شحادة، لكن لم تتح له سوى مدة قصيرة معه، وقد “كان أخاً عاملاً نشيطاً يتابع قضايا المجاهدين الأسرى، ويشرف على نشاطات المؤسسة التنظيمية داخل المعتقل”، وفق توضيحه.
“الشاباك” وقضايا الإسقاط
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

إصابة مواطنين برصاص الاحتلال في بنت جبيل جنوبي لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب شخصان برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، في بلدة مارون الراس الحدودية، قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان....

حماس: الموقف العربي من حرب التجويع والإبادة لا يرقى لمستوى الجريمة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شددت حركة "حماس" على أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب جريمة حرب مركبة في غزة، باستخدامها التجويع سلاحا ضد...

السلطة تقطع رواتب عدد كبير من الأسرى في سجون الاحتلال
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلام أقدمت السلطة على قطع رواتب عدد من الأسرى والأسيرات، والمحررين والمحررات، في خطوة أثارت استياء واسعًا في...

الأورومتوسطي: إسرائيل تقتل امرأة فلسطينية كل ساعة في قطاع غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل بالقصف المباشر على قطاع غزة ما معدله 21.3 امرأة...

الصحة تحذر من تسارع مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وزارة الصحة من أن مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية في "تسارع خطير"، فميا أفادت بأن مستشفيات القطاع استقبلت...

الأونروا تحذر من ضرر غير قابل للإصلاح مع إطالة أمد الحصار الإسرائيلي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من أن إطالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي منع إدخال المساعدات إلى...

السفير الأمريكي في إسرائيل يجدد دعم واشنطن لتهجير الفلسطينيين من غزة
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام جدد السفير الأمريكي لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي مايك هاكابي، دعم واشنطن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، رغم...