عاجل

الإثنين 13/مايو/2024

إسرائيل اللاصهيونية . . ماذا تكون؟ وكيف نتعامل معها؟

إسرائيل اللاصهيونية . . ماذا تكون؟ وكيف نتعامل معها؟

نشأت الحركة الصهيونية كحركة أوروبية – غربية لمعالجة أوضاع اليهود في أوروبا والعالم في مرحلة التحولات القومية، وتحويل الشخصية اليهودية من الانعزالية والطفيلية إلى الانفتاح والإنتاجية، وباختصار، تطبيع الشخصية اليهودية والخروج بها من مأزق الغيتو الضيق وقيمه التي كانت سبب تعاسة اليهود ومعاناتهم في المجتمعات الأوروبية في ظل تلك التحولات .

وبهذا المعنى كانت الصهيونية كأيديولوجية وكحركة سياسية شأناً غربياً محضاً، لا ناقة للعرب فيها ولا جمل، إلا عندما ادعت “حقوقاً” تاريخية في أرض فلسطين العربية، وأرادت إنشاء وطن قومي لليهود فيها، باعتبار ذلك بداية خلاصهم، وارتبطت بذلك بالاستعمار الأوروبي للعالم العربي .

وعلى رغم نجاح الحركة الصهيونية في تحويل الأسطورة إلى واقع بإنشاء دولة إسرائيل في العام 1948، بعد نشاط استيطاني مكثف في فلسطين، واستمرار هذه الدولة ما يربو على نص القرن، فقد أثبت تطورها وتطور الصراع العربي – الإسرائيلي فشل الصهيونية في تحقيق أغلب أهدافها، وذلك كما يلي:

فشلت في تطبيع الشخصية اليهودية أولاً، ولا تزال هذه الشخصية داخل إسرائيل وخارجها تعاني الأسقام نفسها، الطفيلية، والانعزالية، والعنصرية، والعدوانية .

فشلت في جذب يهود العالم إلى “الوطن” الذي أنشأته في فلسطين العربية، وعلى النقيض من ذلك تتزايد اتجاهات الهجرة اليهودية من إسرائيل إلى الولايات المتحدة وغيرها، وبلا رجعة، وهذه هي النتيجة الطبيعية لحقيقة أن الأوطان لا تصطنع .

فشلت في طرد الفلسطينيين وتحويل فلسطين إلى “أرض بلا شعب” وفق الإدعاء الصهيوني الأشهر، ولا يزال الحضور السياسي والديمغرافي للفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين قائماًن ويتزايد .

فشلت في تحويل الأخلاط اليهودية المهاجرة من كل أنحاء العالم إلى “شعب” يستحق أن يستوطن فلسطين وفق الشعار الصهيوني “شعب بلا أرض” ولا تزال هذه الأخلاط متنافرة تماماً، ومتصارعة، وتدار صراعاتها بأعنف الوسائل وأرخصها .

فشلت في توفير الأمن لإسرائيل، ومع كل انتصار وتوسع حققتهما على حساب الدول العربية تضاعفت أعباؤها الأمنية وازداد اعتمادها على القوى الكبرى لضمان استمرارها ورفاهيتها .

فشلت في إجبار المحيط العربي على الاعتراف بها والتعايش معها، وتحويل شرعية الأمر الواقع المفروضة بقوة السلاح والطغيان الدولي إلى قبول ورضاء بوجودها .

لكل هذه العوامل وغيرها، وبالأخص سقوط الأيديولوجيا، وسيادة الفكر العلمي والنزعات الفردية في العالم المعاصر، بدلاً من الشحن العاطفي والحشد الأيديولوجي، لا سيما المستند إلى الأساطير، لكل هذه العوامل تثور داخل إسرائيل ذاتها مقولات “ما بعد الصهيونية” إن لم يكن اعترافاً بفشل الصهيونية وتداعي أسسها، فعلى الأقل لأن الصهيونية استنفدت أغراضها بإنشاء إسرائيل وتحويل عدد لا بأس به من اليهود إليها .

وفي هذا الإطار يجدر بنا نحن العرب أن نتساءل أولاً: إذا كانت إسرائيل تخلت عن الصهيونية، فماذا ستكون إسرائيل ما بعد الصهيونية؟ وثانياً: كيف نتعامل معها؟

وللإجابة على السؤال الأول، يلاحظ أن إسرائيل وإن كانت خلعت رداء الصهيونية، فهي لا تزال عارية، تتنازعها ثلاثة اتجاهات أساسية تحدد هويتها وهي:

الاتجاه الصهيوني التصحيحي الذي يقوده “ليكود” وبعض الحركات اليمينية العلمانية مثل “توسميت” و”موليدت” وهو يسعى إلى ترقيع الثوب الصهيوني البالي، والانطلاق من الأرضية نفسها التي أثبتت فشلها بجدارة، وهو تيار لم يستوعب بعد دروس الصراع العربي – الإسرائيلي، ولا التحولات العالمية الراهنة، أو ربما أفزعته هذه الدروس وتلك التحولات، فانبرى لمواجهتها بردود فعل مشوشة، ويذكر أنه لا يملك تصوراً واضحاً لمستقبل إسرائيل، ولا يحظى بخبرة سياسية كافية لذلك، ولا يتميز إلا بالعداء للعرب، وإثارة الهاجس الأمني لدى الإسرائيليين كأساس لاستمراره في الحكم، والتقليل من شأن الخيارات البديلة التي يطرحها اليسار .

الاتجاه الديني: وهو منشق على نفسه على أسس عدة منها موقفه من الصهيونية، حيث توجد حركات دينية صهيونية أبرزها الحزب القومي الديني “المفدال”، وأخرى لا صهيونية، مثل شاس، ويهدوت هتواره، وهي تسعى إلى فرض الطبيعة الدينية على الدولة، وبدأ هذا الاتجاه يتسلل إلى أبنية الدولة الرسمية وغير الرسمية على استحياء، ولكنه الآن يتطلع إلى شغل الفراغ الناشئ من سقوط الأيديولوجية وبخاصة لدى الشباب المتطلع إلى المثل والذي يعاني من الآثار السلبية للمادية المفرطة، ويتطلع إلى الخلاص الإعجازي من الورطة التي سببتها لهم الصهيونية بإيجادهم في “وطن” مصطنع في محيط من الأعداء وصراع لا ينتهي .

الاتجاه اليساري، ويمثله حزب العمل وحركة “ميرتس” بالأساس، ومنه بالذات تخرج دعاوى ما بعد الصهيونية وهو يريد أن يلبس إسرائيل ثوباً على “موضة التسعينات، ليبرالياً – ديمقراطياً – اندماجياً في النظام الدولي والمحيط الإقليمي العربي، على أسس مستمدة من النموذج الليبرالي العالمي السائد، وكان هذا الاتجاه في الغالب هو صانع التحولات الكبرى في تاريخ الصهيونية، وتحمل برامجه غالباً رؤى مرنة للتكيف مع التحولات الداخلية والإقليمية والدولية وهو الذي أنشأ إسرائيل، وأسس مؤسساتها، ووضع لها خطط الاستيطان، ورسم لها خرائط التسويات المحتملة، ويحظى بتفضيل عالمي وإقليمي على الاتجاهين الآخرين .

وهناك توازن بين هذه الاتجاهات الثلاثة، لا يرجح حسمه في المستقبل العاجل، الأمر الذي يبقي إسرائيل مترددة لفترة مقبلة بين هذه الاتجاهات الثلاثة، إلى أن يحسم الصراع الداخلي لمصلحة أي منها، أو تخرج بصيغة توافقية جديدة .

وأما عن السؤال الآخر: كيف نتعامل نحن العرب مع إسرائيل ما بعد الصهيونية، فإن إجابة دقيقة عن هذا السؤال يجب ألا تستند  إلى هذا المتغير كأساس، بقدر ما ترتكز على الثوابت التي يرجح استمرارها سواء جددت إسرائيل ثوبها الصهيوني أو استبدلت به أثواباً أخرى، وذلك لأن صراعنا ضد إسرائيل لم يكن بسبب كونها صهيونية، أو اشتراكية، أو ليبرالية، أو دينية أو علمانية، أو كل هذا معاً، ولكن يرجع هذا الصراع كما سبق إلى احتلالها لفلسطين، واضطهاد شعبها العربي، وتوسعها في الأراضي العربية، وتهديدها للأمن العربي بذاتها وبتحالفاتها الدولية، فهل تتلاشى هذه الأسباب بتحول إسرائيل عن الصهيونية ؟

إن الأمر الواقع يؤكد استمرار إسرائيل في الاحتلال، والعنصرية والتهديد للأمن العربي، والمستقبل يحوي بين دفتيه ثلاثة احتمالات هي:

استمرار الأمر الواقع باستمرار التحالف الصهيوني – الديني في الحكم، وهو احتمال تتأكد معه أسباب الصراع العربي – الإسرائيلي، ويدعو إلى تصعيد هذا الصراع .

انتصار الاتجاه الديني، وهو أمر لا يعني أكثر من قلب التحالف الحاكم من صهيوني تصحيحي – ديني، إلى ديني تصحيحي ويترتب على مثل ذلك الاحتمال ازدياد التشدد الإسرائيلي، وتكرس أسباب الصراع العربي – الإسرائيلي، وتزايد احتمالات تصعيده أكثر من الآن، ولن يكون اليسار أفضل حالاً في مثل هذه الظروف .

انتصار اليسار، ومحاولته تبني نموذج غير صهيوني (ديمقراطي، ليبرالي، اندماجي)  وفي هذه الحال أيضاً لا يرجح أن يؤثر ذلك كثيراً في أسباب الصراع العربي – الإسرائيلي، لسببين أساسيين، وهما:

(أ) إن القوى اليسارية في حكمها ستكون مقيدة بالقوتين الأخريين في إسرائيل، بتوجهاتهما المذكورة، وهما لن تسمحا بسقف مرتفع للتغيير، ولن يستطيع اليسار تجاهلهما، وتمزيق الكيان الإسرائيلي أكثر مما هو ممزق من أجل الاندماج في المحيط العربي والعالمي .

(ب) إن انسحاب إسرائيل من معظم الأراضي العربية المحتلة، وتحسين أوضاع فلسطيني 1948 وإقامة دولة فلسطينية – إن تم ذلك كله – لن يقضي على الأسباب الأخرى للصراع العربي – الإسرائيلي، كتهديد الأمن العربي تهديداً ذاتياً (أي من قبل إسرائيل بذاتها)، أو بتحالفات إسرائيل الدولية المضادة للمصالح العربية الاستراتيجية وأهمها التضامن والاستقلال الاقتصادي والسياسي، حيث لا يعدو هذا التحول أن يكون تحولاً في إدارة الصراع من الأدوات العسكرية إلى الأدوات الاقتصادية، في ظروف عالمية متغيرة لم تعد فيها لاحتلال الأراضي المكلف والقوة العسكرية المستفزة أولوية .

إن هذه الرؤية تفترض أساساً أن على العالم العربي أن يتأهب لمواجهة ما هو أسوأ، أو على الأقل ألا يرهن مستقبله وأمنه بتحولات لدى أطراف الصراع الأخرى، ليس هناك ما يؤكد أنها ستكون في صالحه، ولعل أهم ما ينبغي للعالم العربي أن يفعله هو إجراء مراجعة نقدية لمسيرة الصراع ضد الصهيونية إسرائيل، واستخلاص الدروس من هذه المسيرة التي يبدو أن من أهمها أمرين أساسيين متكاملين، وهما:

إن إسرائيل في أقبح أثوابها عنصرية وتطرفاً تتراجع إذا ما وجدت في مقابلها تماسكاً عربياً صلباً ومقاومة فاعلة، وهذا ما تشهد به خبرات الصراع العربي – الإسرائيلي في سيناء، وجنوب لبنان، وفلسطين الانتفاضة، ومن باب أولى أن مثل هذه الصلابة وتلك الفاعلية تجبران إسرائيل الراغبة في التخلص من أعباء الصراع أكثر على الامتثال للمطالب العربية العادلة، وهما الأساس الذي يعتمد عليه لتقوية تلك الاتجاهات الداعية إلى السلم هناك .

إن قيام إسرائيل واستفحال تهديداتها لهما وجه آخر هو تمزق العالم العربي، وغياب الإرادة الفاعلة لمواجهة هذا التهديد الخطير، لذلك فالمطلوب ليس الانشغال بالتحولات الصهيونية بقدر ما هو إجراء تحولات عربية نحو مزيد من التضامن، والجدية في تأمين مستقبل الأجيال العربية الحالية والمقبلة حتى لا تعيش تحت وطأة التهديد .

الحياة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات