في ذكرى النكبة
حلّت هذا العام الذكرى الخامسة والسبعون (1948-2023) لنكبة فلسطين، ففي الخامس عشر من شهر أيار/ مايو من كل سنة يستحضر الفلسطينيون، بألم شديد، جريمة اغتصاب أرضهم، وتهجير شعبهم، وتدمير قراهم وبلداتهم بغير حق، كما يجددون إرادتهم القوية على الاستمرار صامدين ومقاومين للاحتلال وسياساته الاستيطانية.
أما مصطلح النكبة، فيعود أصل إبداعه واستعماله إلى شيخ المؤرخين العرب الراحل قسطنطين زريق، الذي أصدر كتابا موسوما بـ”معنى النكبة”، في أعقاب الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في 14 أيار/ مايو 1948، قبل أن يُتبعه بكتاب آخر بعنوان “النكبة مجددا” في أعقاب نكسة 1967.
تنطوي النكبة على حمولة قوية من حيث الدلالات والأبعاد، فهي تعبر عن جُرح فلسطيني غائر، ولم تستطع آلة القمع الإسرائيلية ثني إرادة الفلسطينيين في الاستمرار في المقاومة بكل ما توفرت لديهم من وسائل، كما أنها ترمز إلى استمرار حالة شاذة من الاستيطان قلّ نظيرها في التاريخ الحديث، أسست وجودها على اغتصاب الأرض، وتشريد شعب أصيل، والسعي الحثيث إلى طمس كثافة تاريخية وإحلال تاريخ دخيل بغير أصول ولا شرعية.
ثم إن النكبة لم تكن في عُمقها فلسطينية فحسب، وإن مسّت فلسطين، بل عبّرت عن واقع عربي هُزمت جيوشه، وخُدشت معنويات مجتمعاته، وتعرّت صورة بنياته العامة، وتعرض وجوده الحضاري والثقافي للاهتزاز. فمنذ العام 1948 وسؤال العرب “إلى أين” يتردد باستمرار، ولم تجد الكتابات على وفرتها الكمية طريقها إلى الإجابة الصحيحة والشافية، بل تكررت النكبة من جديد عام 1967، حين احتلت أراضي أربع دول دفعة واحدة وفي زمن قياسي.
قرأت قبل سنوات في إحدى المجلات العربية مقالا بالغ الدقة والعمق لنقيب الصحافيين المصريين، ورئيس اتحاد الصحافيين العرب، المرحوم “كامل زهيري” (1927-2008)، شدد فيه على صعوبة المفاوضات مع إسرائيل واستحالة الوصول إلى اتفاقات، بسبب الطبيعة المعقدة الخاصة لثقافة التفاوض مع الإسرائيليين. والحال أنها ملاحظة بالغة الأهمية؛ ليس لما جرى ويجري اليوم في ملف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل ينطبق على التاريخ أيضا من زاوية طريقة التفاوض، ومدى الاستعداد للوصول إلى المشترك، وحدود احترام الالتزامات والوفاء بالعهود، أو نقضها والتنكر لها. فالفكرة المفصلية لدى “كامل زهيري” أنه ليس ثمة حظوظ للتفاوض مع إسرائيل من أجل بناء السلام واستتباب السلم الموسوم بالنجاح والديمومة.
ليس المقال المبين أعلاه سوى واحد من آلاف المقالات التي كُتبت عن النكبة وما ترتبت عنها من مآس وتراجيديات فردية وجماعية، كما أن إبداعات الفلسطينيين في شتى الفنون والمجالات المعرفية لا تُعدّ ولا تحصى، فقد أبدعوا في نظم قصائد الشعر بكل أنواعه وأشكاله، وألفوا المسرحيات، ورسموا اللوحات، ونسجوا كل ما يجسد تاريخ بلادهم، ورموز مجتمعهم، وتطلعات مستقبلهم. وقد أثبتوا من خلال حضور قضيتهم العادلة في عقلهم الجمعي وأحاسيسهم الفردية أنهم ثابتون على نهج المقاومة بكل أشكالها، وأنهم شعب عظيم لا يُقهر، وأن الحق معهم، وإن عانوا ويُعانون من ظلم العالم وغضاضة بعض الإخوة في الدين والدم والتاريخ. من منا لا يردد قصائد الراحل محمود درويش الكثيرة والبليغة عن الجرح والحلم الفلسطيني، وعن تراب فلسطين، وزيتونها، وكرومها، وبحرها وأنهارها، وتلالها، وبلداتها الجميلة، وزرقة سمائها وبحرها؟
ولشدة تمسك الفلسطينيين بأرضهم وعدالة قضيتهم، ما زال يحتفظ المهجرون منهم بمفاتيح منازلهم رغم مرور أكثر من سبعة عقود على النكبة، وما زالوا، حين تتاح لهم الفرصة، يزورون منازلهم وإن احتلها المحتلون، أو هدمت وتغيرت معالمها، وما زالوا يحتفظون بما يثبت أحقيتهم في ملكيتهم لها.. أتذكّر يوم التقيت بابنة الراحل “حسن الكرمي” (1939-)، صاحب برنامج “قول على قول” الشهير في الإذاعة البريطانية، الطبيبة والأكاديمية “غادة الكرمي”، على هامش ندوة دولية في أكسفورد، فحدثتني بألم شديد عن تهجيرهم من منزلهم في مدينة “طولكرم”، وكيف ترك أبوها مسودة عمل لم يكمله على طاولة حديقته، بسبب عنف التهجير، وكيف تحول المنزل إلى مسكن لغاصب يهودي بعد النكبة.. والحال أن مثال “غادة الكرمي” ليس سوى واحد من آلاف الأمثلة، فالمهجرون الفلسطينيون يعدون بالملايين في دول الشتات.
لا شك أن النكبة دائمة ومستمرة، يستبطنها الفلسطينيون ويجهدون من أجل محو آثارها، كما أن الأسباب المفضية إلى وقوع النكبة عامي 1948 و1967، ما زال جوهر عناصرها جاثما على الواقع العربي وحال الأمة، كما أن مرور أكثر من سبعة عقود على هزيمة الجيوش العربية، وميلاد دولة إسرائيل، وإن شهدت تحولات في الفكر الناظم لمنظورات الفلسطينيين والعرب عموما لقضية الصراع مع إسرائيل وسبل تجاوزه، فإن روح النكبة لم تتبدد بعد، وأن المطلوب والمأمول نزع هذه الروح، وإعادة بناء القوة في وعي الفلسطينيين والعرب عموما.
فالجسم الفلسطيني يحتاج إلى قوة أكثر، وهي القوة التي لا تتحقق إلا بوحدة الفلسطينيين والتفافهم حول قضيتهم، كما أن الحال العربي في حاجة إلى ما يرفع عنه شروط الوهن والضعف، ويجعل مكوناته أكثر صدقا وصدقية في النظر إلى القضية الفلسطينية والتفكير في سبل حلها.. وحين تكتمل كل هذه الشروط تزول النكبة وتتبدد روحها، ويستعيد الفلسطينيون حقهم، ويتصالح العرب مع تاريخهم.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
تحذير حقوقي من كارثة إنسانية خطيرة في رفح مع إغلاق المعابر
رفح - المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن نذر كارثة إنسانية خطيرة متعددة الأبعاد بدأت تتفاقم سريعًا في رفح جنوب قطاع...
تركيا تطالب إسرائيل بالانسحاب من معبر رفح فورا
أنقرة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت وزارة الخارجية التركية، إن "أي عملية ستجري في رفح ستؤثر على العالم بأسره"، ودعت إسرائيل إلى الانسحاب فورا من...
شيخ الأقصى يدعو الأمّة لمواجهة المؤامرة الصهيونية وشد الرّحال للقدس
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أكد الشيخ رائد صلاح في مقابلة إعلامية أنّ سعي الاحتلال لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك ليس جديدًا بل هو...
هيئة حقوقية: ارتفاع عدد معتقلي الضفة إلى 8610 منذ 7 أكتوبر
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت هيئة الأسرى وشؤون المحررين ارتفاع عدد المعتقلين في الضفة الغربية المحتلة، الثلاثاء، إلى 8 آلاف و610...
أونروا تطالب بإعادة فتح المعابر الرئيسية في غزة دون تأخير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" فيليب لازاريني، إن "المعابر الرئيسية في قطاع غزة...
وفد قيادي من حماس يصل إلى القاهرة لمتابعة جهود وقف العدوان
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت حركة المقاومة الإسلامية حماس، الثلاثاء، أن وفدًا رفيعًا برئاسة رئيس حركة حماس في غزة د. خليل الحية، وصل إلى...
حمدان: الكرة في ملعب نتنياهو وعصابته وعمليته العسكرية برفح لن تكون نزهة
بيروت – المركز الفلسطيني للإعلام أكد القيادي في حركة حماس أسامة حمدان مساء اليوم الثلاثاء خلال مؤتمر صحفي في العاصمة اللبنانية بيروت، أنه وعلى...