الثلاثاء 07/مايو/2024

حي الشيخ جراح.. هدف استراتيجي للاستيطان الجيوسياسي

ياسين عادل خضر

واهمٌ من يظن أن الاستيطان في فلسطين يتم بصورة عشوائية وغير منظَمة؛ فالطريقة التي تختار المؤسسات الصهيونية لاستيطانية بها المناطق الفلسطينية لاحتلالها، تكشف العمل المُنظم الذي تقوم به تلك المؤسسات من أجل الوصول للهدف الأعظم وهو الإحتلال الكامل لدولة فلسطين.

فمن يتابع المناطق التي تُقام عليها المستوطنات الصهيونية يُدرك تمامًا أن هذا العمل يأتي بصورةٍ منتظمة ضمن مُخططِ كامل مِن أجل مصادرة الأرض والسيطرة عليها قسرًا.

الأمر الذي يدفعنا للحديث عن الأهداف التي تعمل مِن أجلها المؤسسات الاستيطانية في فلسطين، فمنها ما يدفع في المجال الاقتصادي ومنها ما يخدم في المجال العسكري ومنها ما يأتي في نطاق جيوسياسي.

أهداف الاستيطان

المُتابع لعمليات الاستيطان في فلسطين يستطيع وبشكل واضح فهم الأسباب التي تدفع الإحتلال ومؤسسته الاستيطانية من السيطرة على الأراضي الفلسطيني كُل حسب موقعها.

فهناك الأهداف التي تدفع من أجل تعزيز الاقتصاد في دولة الإحتلال من خلال إقامة المستوطنات في الأماكن السياحية، أو الاستيطان في مناطق تحتوي على مقدرات حيوية كالمياه الجوفية أو المعادن كما يحدث في مناطق المحاجر أو المناطق التي تتميز بخصوبة أرض عالية لتستخدمها في الزراعة والتصدير.

وهناك الأهداف التي تدفع في الاتجاه العسكري كالاستيطان في المناطق التي تفصل بين القرى والبلدات الفلسطينية من أجل إحكام السيطرة عليها، أو الاستيطان في مناطق ذات ميزة جغرافية تعمل كمناطق حاكمة أو كاشفة.

ومنها تلك الأهداف التي تدفع بقوة في لتحقيق أهداف جيوسياسية، كتلك الأحداث التي تدور بقوة في حي الشيخ جراح في القدس المُحتلة.

حكاية “الشيخ جراح”

بدأت حكاية حي الشيخ جراح منذ أن وقعت اتفاقية بين الأردن والأونروا عام 1956م تقضي بإنشاء 28 وحدة سكنية بحي الشيخ جراح لعائلاتٍ فلسطينية هُجرت قسراً من بيوتها بعد أن تم احتلالها، وبموجب هذه الاتفاقية تُنقل ملكية هذه الوحدات السكنية إلى العائلات الفلسطينية وتسجل بأسمائهم فيما بعد.

ليُصادق الكنيست “الإسرائيلي” بعد 14 عام من تشييد تلك المنازل وتحديداً في العام 1970م على قانون يزعم فيه ملكية اليهود لأراضٍ وعقارات في حي الشيخ جراح، مُدعياً أن ملكيتها تعود لليهود قبل قيام “إسرائيل”.

وبموجب ذلك شرعت المؤسسات الاستيطانية إلى زرع البؤر الاستيطانية في حي الشيخ جراح، بالإضافة إلى استقدام المستوطنين وتشريع اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين لتضيق الخناق عليهم وإرهابهم لفرض ما أتى بهذا القانون واقعاً، إلى جانب رفعها لقضايا تم النظر فيها في المحاكم “الإسرائيلية” والتي لن تحكم عدلاً في قضيةٍ أحد طرفيها هو الإحتلال ومحورها المشروع الاستيطاني ضد الفلسطينيين. 

وبذلك بدأت حكاية النكبة للمرة الثانية تعود من جديد، عندما استولت قوات الإحتلال على منزل عائلة الغاوي الذي سكنته العائلة منذ خمسينيات القرن الماضي، فطُردوا منه قسراً لصالح المؤسسات الاستيطانية “الإسرائيلية” لتستوطن الأخيرة فيه اليهود، فتكون عائلة الغاوي بلا مأوى قسراً وظُلماً بعد أن أصبحوا لاجئين للمرة الثانية عام 2008م، وذلك بعد ان هجّرهم الإحتلال من بلدتهم الأصلية يافا عام 1948م.

وباتت العديد من العائلات الفلسطينية مهددة بنفس المصير والتهجير القسري من بيوتها لصالح المشروع الاستيطاني الصهيوني في مدينة القدس، لكن اندلاع معركة سيف القدس التي جاءت رداً على اعتداءات المستوطنين المتكررة على اهالي الحي ودرءاً عنهم خطر التهجير القسري مرة أخرى أدى إلى وقف هذه الموجة، لكنها باتت تعود إلى الصدارة من جديد عندما أقدم عضو الكنيست المتطرف ايتمار بن غفير على افتتاح مكتبه مرة أخرى في الحي، ما أدى إلى تصعيد التوتر مرة أخرى.

والملاحظ أن المؤسسات الاستيطانية بمساعدة المحاكم “الاسرائيلية” تتوافق في العمل على تذليل العقبات أمام حركة الاستيطان في فلسطين بشكل عام وحي الشيخ جراح على وجه الخصوص لما له من أهمية جيوسياسية للإحتلال “الاسرائيلي”، فبعد إقرار الكنيست قانون الأملاك المزعوم لليهود بدأت عمليات التهجير القسري والطرد للعائلات الفلسطينية بموازاة التحرك في المحاكم “الاسرائيلية” لإضفاء البُعد القانوني ـ غير الشرعي ـ على ما يجري هناك، لكن الحقيقة تتمثل في كونه جزءاُ من مشروعٍ استيطانيٍ يسعى لاحتلال فلسطين كاملها.

أهمية جيوسياسية

الإصرار الغريب على طرد العائلات الفلسطينية وتهجيرها قسراً من منازلهم في حي الشيخ جراح يُعطينا انطباعاً عن الأهمية الكبيرة التي يوليها الإحتلال “الإسرائيلي” لهذا الحي، على الرغم من احتمالات كبيرة لانفجار معركة جديدة تقودها المقاومة الفلسطينية رداً على ممارسات الإحتلال ومستوطنيه العدائية تجاه الحي وسكانه.

إذ يحتل حي الشيخ جراح مكانة إستراتيجية لها أبعاد جيوسياسية مُهمة على صعيدين أحدهما داخلي محلي وآخر خارجي دولي، ولهذا الامر أهمية بالغة تجعل منه هدفاً استراتيجياً للاستيطان الذي لم يتوقف عن ابتلاعه للأراضي الفلسطينية.

أبعاد جيوسياسية داخلية للحي: تتعلّق بالجغرافية المثالية التي يقع فيها الحي، إذ يُطل على وادي سلون أو “وادي النار” ويمر بطريق البلدة القديمة شمالاً بالإضافة لجبل المشارف ذو الأهمية الجيوسياسية الكبيرة لوجوده في مكان استراتيجي يُطل على البلدة القديمة من جهة وعلى قبة الصخرة من جهة أخرى، وكما ويُعتبر حي الشيخ جراح بمثابة حلقة الوصل التي تربط الأحياء الفلسطينية ومركز المدينة بشمالها وجنوبها، ما يعني أن السيطرة عليه تفصل الأحياء الفلسطينية عن بعضها وتعزز وجود الإحتلال ومستوطنيه سعياً لإحداث تغيير ديموغرافي في ذات المنطقة، فضلاً عن إحكام سيطرته عليها.

أبعاد جيوسياسية خارجية للحي: وجود عدد كبير من الممثليات والقنصليات منها ما هو داخل الحي ومنها ما يقع حوله وبالقرب منه نذكر منها التركية والبريطانية والبلغارية والسويسرية والإيطالية والفرنسية والإسبانية، وما يزيد من أهميتها الجيوسياسية وجود مكاتب دولية تتبع للأمم المتحدة كمكتب الشؤون الإنسانية (OCHA) ومكاتب تابعة لمنظمة الصحة العالمية (WHO) وممثليّة الاتحاد الأوروبي ومكاتب للصليب الأحمر والعديد من المكاتب للمؤسسات الدولية المختلفة.

خطوات صهيونية

هناك بعض الخطوات التي قام الإحتلال “الإسرائيلي” باتخاذها في حي الشيخ جراح من خلال المؤسسات الإستيطانية أو من خلال اتخاذه للقرارات الحكومية ـ غير الشرعية ـ كان لها أبعاد جيوسياسية كافتتاحه لبعض المكاتب الحكومية بالقرب من الحي وتعطيل عملية إصدار تصاريح البناء للفلسطينيين إلى جانب تكثيف عمليات استقدام المستوطنين وعمليات التهجير القسري للفلسطينيين.

كانت الخطوة الأكبر للإحتلال بهذا الشأن هو قيامه بافتتاح المقر المركزي لشرطة الإحتلال بالقرب من الحي، إضافة إلى تعطيل عملية إفتتاح مدرسة “المأمونية” الثانوية للبنات بعد بناءها ولكن سياسة الإحتلال حالت دون ذلك لتُصادر مبنى المدرسة لاحقاً لصالح وزارة الداخلية “الإسرائيلية”.

هذه الخطوات وما يُقابلها من سياسة الاحتلال الصهيوني للاستيطان في الضفة الغربية تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن العين الصهيونية لن تكف عن التغوّل والاعتداء على الفلسطينيين وأرضهم عامة وفي حي الشيخ جراح خاصة، حيث أن الحي لديه أهمية كبيرة في حساب الإحتلال كما استعرضنا في هذا المقال، وبالتالي فإن وقفتنا أمامه يجب أن تكون بحجم أكبر من حسابات الإحتلال الجيوسياسية المستقبلية في إحكام السيطرة على القدس وحُلمه في العاصمة الكُبرى، ففلسطين للفلسطينيين والقدس هي العاصمة الأبدية لها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات