عاجل

الثلاثاء 13/مايو/2025

القانون الدولي بعد غزة: أزمة شرعية أم أزمة بنية؟

د. محمد خليل الموسى

منذ العدوان العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر و2023، ومرورًا بالجرائم الدولية واسعة النطاق والممنهجة التي وُثّقت من قبل منظمات دولية؛ وفي مقدمتها جرائم الإبادة الجماعية، أُثيرت تساؤلات عميقة حول فعالية القانون الدولي ومدى صموده أمام مقتضيات الواقع وتحدياته. لقد شكّلت غزة لحظة كاشفة، لا فقط لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، بل لأزمة جوهرية في بنية القانون الدولي ذاته.

 لا ريب أن الاتجاه السائد في العالم العربي، حتى بين القانونيين بمن فيهم مختصو القانون الدولي، يرى في القانون الدولي مجرد ” إكسسوار” لا طائل من ورائه ولا مغنم من دراسته والعمل به. وهو تصور مرده إلى نقص المعرفة الفلسفية والسوسيولوجية وإلى عدم إدراك الداعين إليه للصراع بين العدالة والسيادة أو الحق والقوة داخل اي نظام قانونية أو منظومة اجتماعية.

على أي حال، سنحاول في هذه المقالة تشخيص واقع القانون الدولي في مواجهة الإبادة الجماعية في غزة واستشراف افاق القانون الدولي بعد غزة.

القانون الدولي في مواجهة الإبادة – صمت مريب

رغم وضوح النصوص القانونية في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تلزم الدول الأطراف بمنع ومعاقبة الأفعال التي تهدف إلى تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية، جزئيًا أو كليًا، إلا أن المجتمع الدولي لم يتحرك فعليًا لوقف العدوان العسكريةالإسرائيلي ضد المدنيين في غزة وما صاحبه من جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

وقد أقرّت محكمة العدل الدولية في الأمر الصادر في 26 يناير 2024، في الدعوى المقدّمة من جنوب أفريقيا، بوجود “احتمال معقول لوقوع إبادة جماعية” وطالبت إسرائيل باتخاذ تدابير فورية لمنعها¹. لكن استمرار العمليات رغم هذا الأمر أثار تساؤلات حول فاعلية النظام القانوني الدولي في حماية الشعوب المستضعفة، خاصة حين تكون القوة العسكرية والسياسية في يد الجاني.

ثانيا: قانون دولي خارج سياقه التاريخي

لا يمكن فهم أزمة القانون الدولي دون النظر إلى جذوره التاريخية. فقد تأسس هذا القانون في سياق استعماري، وكانت فلسطين إحدى أبرز ضحاياه، بدءًا من وعد بلفور إلى نظام الانتداب البريطاني الذي شرعن تهجير الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الأصيل.

يفضي تجاهل هذه البنية التاريخية  إلى قراءة سطحية للنصوص القانونية، ويُعزز من استمرار اللاعدالة باسم القانون. وقد أشار Martti Koskenniemi إلى أن القانون الدولي يعاني من “أزمة تمثيل”، حيث يُفصّل لصالح الدول المهيمنة، ويُطبق على الضعفاء دون إشراكهم الحقيقي في صناعته⁵.

حتى نفهم هذه المسألة بعمق دعونا نستعين بأمثلة واضحة مستوحاة من حرب الولايات المزعومة ضد الإرهاب ومن العدوان  المتوحش على غزة ،ولبنان واليمن. الواقع أن  تتيح السمات الأساسية للحرب على الإرهاب ولحرب الإبادة الجماعية المتوحشة ضد غزة ولبنان، تتيح لنا القول بأننا أمام ما يسمى في أدبيات القانون الدولي عموماً، وفلسفة القانون الدولي خصوصاً، ب “اللحظة الفيتورية” في النظام القانوني الدولي المعاصر. والمصطلح  هو نسبة إلى أحد الرواد الأوائل لنظرية القانون الدولي وهو (فيتوريا) . ويقصد ب”اللحظة الفيتورية” اللحظة التي يتم عندها صياغة مفهوم للآخر من خلال المقاربة الفيتورية لنظرية القانون الدولي، وهي مقاربة تقوم على أساس التمييز بين “متمدن” وآخر “غير متمدن”، وهذا ما سمعناه من أداة الإجرام المسماة ( نتنياهو ).  تفضي هذه الصياغة المفهومية إلى تطبيق مبادئ ذات طابع عدواني أو هجومي على الآخر مثل الدفاع عن النفس، والضربات الاستباقية، والتدخل الإنساني، والوصاية، والتغيير أو التحويل ( شرق أوسط جديد).  وهي كلها مبادئ ونظريات من شأنها أن تهدد القانون النافذ، وان تساهم في بناء “الآخر” بهدف إقصائه من حكم القانون باعتباره مرادفاً للبربرية واللاتمدن. وهي بالنتيجة تؤكد ارتباط القانون الدولي المعاصر بسياقه التاريخي الذي ألمعنا إليه سابقا.

لقد شنت “الحرب ضد الإرهاب”، ثم حرب الإبادة الجماعية المتوحشة ، ضد بلدان وجماعات إسلامية بصورة عامة.  أي أنها حرب معلنة على “الشرق” الذي يمثل في الذهنية الغربية منذ الحروب الصليبية على الأقل، “الآخر المتطرف” الذي يتعين أن يرد “الغرب المتمدن” عليه، وأن يحوله إلى نموذج محدد من شأنه أن يكفل أمنه وأمن الإنسانية جمعاء.  وهي بهذا ترتد إلى نظرية فيتوريا الخاصة بالقانون الدولي، ولكنها تختلف عنها في أنها إمبريالية ذات نزعة مانوية جوفاء تفصل بين معسكر للشر وآخر للخير.  وهي لحظة قضت على ما يبدو، أو على الأقل لنقل أنها خلخلت دعائم النظام القانوني الدولي المعاصر والمبادئ الأساسية للأمم المتحدة.

تمثل “الإمبريالية الدفاعية” التي تقودها الولايات المتحدة، وباقي الدول الغربية والكيان الصهيوني على غزة ومحور المقاومة في المنطقة تشخيصاً معاصراً للنظام الفيتوري، خاصة وأنها تنظر إلى شعوب محددة بأنها ليست أهلاً للخضوع لمبادئ وأحكام ميثاق الأمم المتحدة، وأن “الدول المتمدنة” أو الليبرالية يتعين عليها أن تنزع أسلحة “الدول الشريرة” أو “المارقة” وان تقوم بإدارتها ضمن سياقات غربية أضحت تعبر عن هوية كونية أو عالمية.  وقد أدت هذه النظرة إلى استلهام نظريات تدخلية مختلفة من قبيل تلك التي قام عليها نظام الانتداب في عهد عصبة الأمم، ونظام الوصاية في ميثاق الأمم المتحدة، وهما اللذان هدفا إلى وضع شعوب معينة تحت سلطة وإشراف الدول العظمى بسبب عدم أهليتها على حكم ذاتها، وذلك حتى يتسنى للدول العظمى ممارسة “المهمة الحضارية” أو “عهدة الحضارة المقدسة” لضمان التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهؤلاء الشعوب.

من اللافت للانتباه أن “اللحظة الفيتورية” الراهنة تتسم بنزعة مانوية خرقاء، فهي تفترض انقسام العالم إلى شر وخير، بحيث تمثل الولايات المتحدة  والدول الغربية والكيان الصهيوني معسكر السلم وتكون هي حامية للسلم العالمي في مواجهة الشر ( محور المقاومة الإسلامي).  فضلاً عن النزعة الدينية المبنية على التوجيه الرباني للسياسة الأمريكية، وهي نزعة بدت واضحة في خطاب الرئيس بوش الذي ألقاه بتاريخ 20/1/2005 بمناسبة فترته الرئاسية الثانية، فأكد على الدور “القيادي الأخلاقي للولايات المتحدة”، وعلى طموحه بحرب “صليبية” عالمية من اجل الحرية.  وانطلاقاً من خيرية النموذج الأمريكي، قامت الولايات المتحدة بمحاولة تصديره، وبخاصة للجنوب وللعالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص، باسم العولمة والحرية والديمقراطية. وها هو أداة الإجرام المسماة ( نتنياهو) يكرر ذلك من خلال إشارته المتكررة إلى تغيير الشرق الأوسط والصراع بين البرابرة والمتمدنيين.  لا ريب أن تصدير النموذج الليبرالي الغربي المنحط على أساس وجود مثل أعلى لمعسكر الخيرية يتعين على معسكر الشر الأخذ به، هو عودة للإمبريالية بمعناها الحرفي، وان اتخذت الإمبريالية الجديدة صيغة “الإمبريالية الدفاعية”.  فقد سبقت قوى غربية الولايات المتحدة في هذه النزعة المانوية، فدخلت قوتان أوروبيتان مثل بريطانيا العظمى وفرنسا في نزاعات وحروب إمبريالية باسم جلب الخير للبشر. وكما يذكر (تودوروف) فان هذه الخيرية العامة “تعادل ما يسمى “الحضارة”، وباسمها يفرض المستعمرون هيمنتهم على البلدان الأفريقية والآسيوية.  وقبل ذلك كانت فيالق نابليون تحمل أفكار الثورة الفرنسية على رؤوس الحراب. فالمثل الأعلى والقوة كل منهما يكفل الآخر بالتبادل في كل مرة”.

ثانيًا: ازدواجية المعايير وتقويض الثقة

أحد أبرز المظاهر التي كشفتها أحداث غزة هو الازدواجية الصارخة في تطبيق القانون الدولي. ففي أوكرانيا، تحركت المحكمة الجنائية الدولية بسرعة غير مسبوقة، وصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي خلال أشهر قليلة من بدء الغزو²، أما في الحالة الفلسطينية، فإن غياب المحاسبة استمر لعقود، رغم وجود تقارير موثّقة عن جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة إبادة جماعية³.

هذا التناقض أدّى إلى تآكل شرعية القانون الدولي، إذ بات يُنظر إليه كأداة انتقائية تخدم مصالح القوى الكبرى، لا كمرجعية عادلة. وهو ما وصفه الفقيه David Kennedy بـ”الطابع الأيديولوجي للقانون الدولي”، حيث تُستخدم قواعده لتبرير الهيمنة أكثر من حماية العدالة⁴.

إن مبدأ المساواة في السيادة، ومنطق القانون الدولي، ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الإنساني الدولي وتحريم الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الدولية ؛ التي تعد مقومات وركائز أساسية للشرعية الدولية، لا تتفق كلها مع اللحظة الفيتورية الراهنة، ولا تتناغم مع الإمبريالية الجديدة  مانوية الروح والهوية.  وكما ذكر (نعوم تشومسكي)، فان القوى العظمى القائدة لا تكتفي بمجرد الإعلان عن سياستها الرسمية، ولكنها تفرضها فرضاً كقاعدة عالمية معيارية جديدة.  وغدت القوة، والخطاب القتالي ،والمقولات الدفاعية التي تتخذ شكل إبادات جماعية وتوحش لا القانون هي الوسيلة المفضلة لدى الولايات المتحدة ومعسكرها  الصهيو – غربي لرسم معالم النظام الدولي الراهن، وللتعامل مع منظومة الأمم المتحدة.

وإمعاناً من “الإمبريالية الدفاعية” في التأكيد على خطابها المانوي المتوحش، تبنت واشنطن استراتيجيتها الخاصة بتحرير “الشرق الأوسط” وتغييره، وهي استراتيجية تكرس الأهواء والأحلام السياسية الأمريكية القديمة ببناء الإقليم المفضل لديها وفقاً لرؤاها، ومن خلال الحرب والقتال.  وهي رؤية ليست جديدة للمنطقة الممتدة من أفغانستان إلى المغرب، خاصة وأن المعيار الوحيد لتحديد هذه المنطقة ليس سوى الإسلام، وهذا ما جعل “اللحظة الفيتورية الراهنة” ذات نزعة مانوية، ودفع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إلى بناء خطاب فيتوري،  هو اعتقادهما (كوكيلين عن الغرب ) بأن عليهما واجب بإفناء معسكر إسلامي مقاوما يشكل بالنسبة للغرب ” المختلف، أو “الآخر” أو “الإرهابي”.  وتذرع أداة الإجرام المسماة ( نتنياهو) ب”الإمبريالية الدفاعية” للقول أن حربه ضد الإرهاب ( محور المقاومة في المنطقة)  غايتها الاساسية إعادة صياغة “الآخر”، وتحويله من رجعية الإسلام إلى الحداثة، وربما إلى “ما بعد الحداثة”، وبالنتيجة إقامة شرق أوسط جديد خاضع للهيمنة الصهيو – غربية. فالتوحش الذي يمارسه التحالف الصهيو – غربي ضد غزة، ولبنان واليمن ليس أمرا عارضا. واستبعاد المفاهيم القانونية  المعاصرة التي تحرم التوحش في القتال، وتجرم الإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الدولية وتوجب احترام حقوق الإنسان الأساسية ليس مجرد رغبة آنية أو لحظية، بل هو قرار مكين وراسخ  يعكس بنية ذهنية، روحية وثقافية لا ترى أن القانون قابل للتطبيق على ” الآخر” المختلف ثقافيا ودينيا ما دام أنه يقاوم هيمنة التحالف الصهيو – غربي  ويروم إلى التحرر والاستقلال. والخشية كل الخشية أن يصبح هذا التوحش هو القاعدة في التعامل مع غير الغربيين كبديل عن القانون الدولي ومبادئه.

ثالثا: نحو تجاوز القانون الدولي التقليدي

ما بعد غزة يتطلب مراجعة جذرية. لم يعد كافيًا المطالبة بتفعيل القواعد الموجودة، بل يجب النظر في البنية ذاتها التي تجعل تلك القواعد عاجزة. كيف يمكن لقانون دولي أن يزعم الحياد، بينما تُستخدم أدواته لفرض الحصار، وتبرير الاحتلال وشرعنة الإفلات من العقاب؟

في هذا السياق، تطرح مقاربات “القانون المقاوم” التي تنادي بها حركات الشعوب المستعمَرة والمهمّشة، وإعادة تعريف الشرعية القانونية من منظور أخلاقي شعبي، لا من خلال مؤسسات دولية فقدت صدقيتها. ويُعد اتجاه “المدرسة العالمثالثية” أو TWAIL (المقاربات العالمثالثية للقانون الدولي) محاولة فكرية لفهم القانون من منظور الشعوب غير الأوروبية⁶.

في الواقع غزة ليست مكانا لارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية فحسب بل هي مرآة لأزمة بنيوية في القانون الدولي. لقد كشفت غزة هشاشة المنظومة القانونية أمام القوة، وفشلها في توفير الحماية لمن يُفترض أن يكونوا موضوعها وأنها ما زالت منظومة قابلة للعب دور تحويلي أو إقلابي لصالح القوى المهيمنة على حساب العدالة والحق. لذلك، فإن المرحلة القادمة تستدعي إعادة بناء القانون الدولي من الأساس، وربما إعادة تعريف مفهوم القانون الدولي ذاته ، برؤية تحررية، تنطلق من الشعوب لا من عواصم القرار والدول المهيمنة على النظام الدولي..

الهوامش

¹ International Court of Justice, South Africa v. Israel (Provisional Measures), Order of 26 January 2024, para. 54.

² ICC, Warrant of Arrest for Vladimir Putin, 17 March 2023.

³ Human Rights Council, Report of the Independent International Commission of Inquiry on the Occupied Palestinian Territory, A/HRC/49/25, 2022.

⁴ David Kennedy, The Dark Sides of Virtue: Reassessing International Humanitarianism, Princeton University Press, 2005.

⁵ Martti Koskenniemi, From Apology to Utopia: The Structure of International Legal Argument, Cambridge University Press, 2005.

⁶ Makau Mutua, What is TWAIL?, ASIL Proceedings, Vol. 94 (2000), pp. 31–38.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تبنت " سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مساء اليوم، قصف اسدود وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة برشقات...