الطفل حسن عياد.. أنشد لصمود غزة من زمن متاريس بيروت

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
“اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت، والعرب بنومة هنيّة”… بهذه الكلمات صدح صوت الطفل الفلسطيني حسن عياد، ابن قطاع غزة، ليحمل وجع شعبه وألمه في كلماتٍ بسيطة لكنها حادة كشظايا الصواريخ التي أسكتت موهبة فنية إلى الأبد.
لم يكن حسن يتجاوز الثالثة عشرة من عمره حينما قرر أن يوثق بصوته ما يعيشه يومياً من ويلات العدوان والحصار، فغنى بصوتٍ رخيم وواثق أنشودة حملت أصداء الماضي والحاضر، وربطت مأساة جيله بنضال الثورة الفلسطينية في بيروت.
لم يكن يعلم حسن أن الفيديو الذي ظهر فيه برفقة والده يغني هذه الكلمات سيصبح واحداً من آلاف الشواهد على فظاعة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة بقنابل أمريكية وصمت عربي مريب حد التواطؤ. صدح صوت حسن بتناص الأغنية التي كتبها الشاعر الراحل “أحمد دحبور” بحقيقة ما تعيشه غزة المثقلة الهموم والنكبات وسيل الفقد، كما بيروت بعد خروج منظمة التحرير من المدينة 1982، التي كتب فيها الشاعر الراحل شكيب جهشان.
بيروت… أنزف من جرحي/ ومن خجلي/ وتصمدين على الأشواك في المقل” إلى قوله “كل الخيانات شدٌ في مدى عنقي/ والمارقون اكتظاظ في مدى نُزُلي/ آليت ابصق في وجهٍ بلا شرفٍ/ أعييْت/ كل وجوه العار من جَبَلي/ يا أمة حزنت من جبنها أممٌ/ ماذا أقول؟!”.
حزن رقمي عابر للحدود
وعقب انتشار نبأ استشهاد حسن، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات الحزن والنعي، إذ نعاه آلاف النشطاء الفلسطينيين والعرب، مؤكدين أن حسن لم يكن مجرد طفل، بل كان رمزًا للوجع الفلسطيني، وأحد الأصوات الصادقة التي غنّت للوطن من بين الركام. وقد أعيد نشر مقطع الفيديو الذي ينشد فيه حسن كأنه وصية، وتحوّل إلى مادة تضامنية مؤثرة.
وكتب إبراهيم الحاج: “علاء عياد وابنه حسن، هو نفسه ابن جيراننا، الذي كان يصحو فجراً مع والده، يجوب شوارع المخيم كمسحّراتي، من منّا لم يشارك علاء وابنه حسن في زفّة عرسه، هم نفسهم أصحاب ذاك الصوت الذي ظلّ يهتف في مدرجات الملعب البلدي. لم نكن نذهب للمباريات لأجل أن نحقق البطولات، بل كل خواطرنا الداخلية التي تدفعنا لنذهب كل جمعة هي لنعيش الحماسة التي كان يخلقها حسن ووالده ورفاقهم في المدرّجات”.
وكتب مرام: “أنشد حسن للمقاومة، للحق، للطفولة المحاصرة، لغزة، التي عاش فيها، ورحل فيها، قبل أن يكتمل اللحن الأخير”.
وشبه الكثيرون شبّهوا نبرة حسن ونظرته بكلماتها الصادقة، بأصوات الأطفال في الانتفاضة الأولى الذي لم يعرف طعماً للطفولة بعيداً عن الحرب والخوف. وأعادت العديد من وسائل الإعلام العربية والدولية تداول المقاطع التي أنشدها حسن، ورثاء والده والدمع ملئ عينيه: “زفوا حسن لأمه، الأقصى بيجري في دمه”.
من “بيروت” إلى “غزة”.. التاريخ يعيد نفسه
ما يزيد من رمزية ما غناه حسن عياد هو ارتباطه بأنشودة قديمة من التراث الغنائي المقاوم، إذ تعود الكلمات الأصلية إلى أغنية “اشهد يا عالم علينا وعا بيروت”، التي أدتها فرقة العاشقين الفلسطينية في ثمانينيات القرن الماضي، خلال اجتياح الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية 1982.
كانت تلك الأغنية شهادة على مجازر صبرا وشاتيلا، ونداءً ضد الصمت العربي والتواطؤ الدولي، وقد تحولت إلى أيقونة فنية تعبّر عن الحق الفلسطيني والعربي المسلوب.
وقد كتبت نهى سعداوي مقالاً في الأغنية نشرته العربي الجديد في 19 سبتمبر 2023، أي قبل أقل من شهر من بدء حرب الإبادة على غزة، وما أشبه الأمس باليوم. تقول سعدواي في مقالها: “المتمعّن في الكلمات يلمس حزناً ووجعاً. حزن ووجع دفين نعم، لكنّ الفلسطينيّ أَنوف إذا دوّن سيرة وجعه. أتخيّل الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور وهو يكتب بيد، وبالأخرى قابضاً على صدره يشدّ أزر قلبه. يلفّ الحزن في مفرداته بغضب مكابِر، إذ يروي أحداث حصار بيروت ونحو 80 يوما من صمود الفدائيين الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية أمام الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية عام 1982”.
وتضيف: “يكتب دحبور أحداث الملحمة كرونولوجيا: الغارة الأولى، الوحدة الفلسطينية اللبنانية، سرقة المعونة الطبية، الخذلان العربي.. حتى مغادرة بيروت. ويؤرّخ لذاكرة المكان: صبرا، المية ومية، شاتيلا، برج البراجنة، قلعة شقيف… لم يهمل دحبور تفصيلاً، كأنه يخشى إن تتالت الأوجاع، سقوط بعضها من الذاكرة”.
فقد أعاد حسن إنتاج كلمات الأغنية الشهيرة بما يعكس تكرار المأساة، مدينة محاصرة، تئنّ تحت القصف، تُهجّر عائلاتها، ويبحث أطفالها عن الماء والغذاء والنجاة.. دون أن يجدوا له سبيلا، ويكأن النشيد الذي وُلد في زمن متاريس بيروت يعيد بثه نفسه في زمن إبادة غزة، ولكن هذه المرة بصوت من لم يشهد معركة بيروت هو أو والده لكنه عاش النسخة المعاصرة منها.
فرقة العاشقين، التي لطالما شكّلت ذاكرة فنية للنضال الفلسطيني، عادت إلى أذهان الناس مع استشهاد حسن، واعتبر كثيرون أن غناءه لتلك الكلمات هو نوع من “تناقل الشعلة بين الأجيال”، حيث يتجدد الصوت المقاوم رغم الألم والفقد. فحسن لم يكن مجرّد طفل، بل شاهد حي على جريمةٍ مكتملة الأركان، غنّى وهو يرمق الدمار من حوله، بملامح طفولية لم يُتح لها أن تكتمل، وبصوتٍ صدّع جدران الصمت، لم يتعلّم الغناء من معهد، بل من تحت الركام، ومن بين صرخات الثكالى ودموع الأمهات.
وفي هذا الإطار تقول السهداوي في اللحن الفلكلوري لأغنية “اشهد يا عالم” الذي طوره الموسيقار الفلسطيني حسين نازك “صيّر وجع بيروت المكابر مقاومة، والمقاومة التزام وانضباط يترجمه الحفاظ على النسق ذاته في اللحن؟”، تماما كما فعل حسن حين غنى بإيقاع حمله صوته دون الحاجة لآلات موسيقية “بالطيارات إحنا دقنا طعم الموت، غارة برية وبحرية، سدوا المعابر بالجوع الناس تموت، شنوا هالحرب النازية”.
غزة اليوم.. جرح مستمر
وحال غزة اليوم لا يختلف كثيرًا عن حال بيروت في سنوات الاجتياح والدمار، ولو قُدر لحسن أن يتمم الأغنية لقال “878 يوماً ما سمعنا غير الهمة الإذاعية.. بالصوت كانوا معانا والصورة ذابت بالمي”.. 18 شهراً من الإبادة يعيش فيها القطاع واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، حيث دمّرت آلاف المنازل، واستشهد وجرح أكثر من 170 ألف فلسطيني، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وباتت معظم المستشفيات خارج الخدمة، والماء ملوّث، وشبح المجاعة يخيم فوق رؤوس مليوني إنسان، بينما العالم يتفرج، والعرب في “نومة هنيّة”، تمامًا كما وصف حسن.
الأنشودة التي أنشدها حسن ليست مجرد غناء، بل شهادة تاريخية على عجز النظام الدولي وتواطؤ الإقليم مع جريمة إبادة مستمرة، ولأن حسن كان يعرف أن الأغنية أداة مقاومة، استخدم صوته في مواجهة الطائرات، واختار أن يحمل وجع غزة في لحن تراثي يختصر قصة شعب.
يرحل الأطفال الفلسطينيون يوميًا، لكن حالة حسن تختلف. لقد نعى نفسه بنفسه، كما يقول ناشطون، وغنّى وجعه بقلب مفتوح، ستبقى كلماته البسيطة، جزءًا من أرشيف النضال الفلسطيني الممتد، من بيروت إلى غزة، ومن زمن النكبة إلى الحصار والإبادة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

استشهاد المعتقل إسماعيل الأسطل في سجون الاحتلال
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مصادر حقوقية استشهاد المواطن محمد إسماعيل الأسطل نتيجة التعذيب الوحشي في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وأفادت مصادر...

محمد طوباسي .. مدني فلسطيني اغتاله الاحتلال لأنه رفض التخابر معه
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن وثق شهادات مقلقة تفيد بقتل جيش الاحتلال الإسرائيلي شابًّا مدنيًّا في قطاع...

الاتحاد الأوروبي تطالب الاحتلال بعدم تسييس المساعدات الإنسانية بغزة
بروكسيل - المركز الفلسطيني للإعلام قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، إن الوضع في غزة لا يمكن أن يستمر على هذا النحو. وفي...

كتائب القسام تنعى القائد خالد الأحمد إثر عملية اغتيال في لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام نعت كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس، القائد الميداني خالد أحمد الأحمد، الذي اغتاله جيش الاحتلال الإسرائيلي...

استشهاد الصحفي نور الدين عبده بقصف إسرائيلي على غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد الصحفي نور الدين مطر عبده، صباح اليوم الأربعاء، جراء قصف إسرائيلي خلال تغطيته المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في...
مصر وقطر تؤكدان استمرار جهودهما في الوساطة بشأن غزة للوصول إلى التهدئة الشاملة
المركز الفلسطيني للإعلام أكدت جمهورية مصر العربية ودولة قطر، في بيان مشترك اليوم الأربعاء، استمرار وتنسيق جهودهما في ملف الوساطة من أجل التوصل إلى...

الاحتلال يغتال قياديا في القسام باستهداف مركبة بصيدا جنوب لبنان
المركز الفلسطيني للإعلام استشهد قيادي ميداني من كتائب القسام، الجناح العسكري، صباح اليوم الأربعاء، في قصف طائرات الاحتلال الحربية، مركبة في مدنية...