رؤية بعيدة المدى… بعد هذه المعرفة أيّ غفران لإسرائيل؟

كثيراً ما تذكّرني الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل، ومنها المجازر الجماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، بالعنوان المؤثّر لكتاب جوناثان راندال “بعد هذه المعرفة… أي غفران؟”. يتردّد صدى سؤاله بقوة أكبر عندما ننظر إلى الجرائم التي ارتكبتها القوات الصهيونية ضدّ فلسطين والعالم العربي.
ليس خلال العقود الماضية فقط، بل على امتداد قرن. وإذا كانت هذه الأفعال، بطبيعتها، لا تُغتفر (وكيف يمكن أن تُغتفَر؟)، فكيف يمكننا مع ذلك أن نتحدّث عن السلام بمعنىً حقيقي؟… على افتراض أن هناك إمكانية حقيقية للسلام قد وُجدت في يوم من الأيّام، فذلك الأمل الهشّ قد تآكل تدريجياً (يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام) بفعل السياسات الإسرائيلية المستمرّة من عدوان وظلم ممنهجَين.
ما كان قد يبدو ممكناً في وقت ما أصبح اليوم بعيد المنال أكثر فأكثر. ولا أعني بالسلام مجرّد توقيع معاهدات مدوّنة في الورق، بل أقصد سلاماً أعمق، يولد من قناعة صادقة، ويرتكز على الاحترام المتبادل وحسن النية. وفي هذا السياق، فإن معاهدات السلام الموقّعة بين إسرائيل ومصر، وبين إسرائيل والأردن، تقف أقرب إلى أن تكون أدوات لضرورات سياسية، لا تعبيرات عن مصالحة حقيقية، وُصل إليها تفادياً لنتائج أسوأ، لا إيذاناً ببزوغ فجر تناغم حقيقي. وبعد عقود من توقيعها، ما تزال هذه المعاهدات باردةً وجافّةً، تفتقر إلى دفء السلام الحقيقي، لا سيّما عند قياسها إلى خلفية كلّ ما ارتكبته إسرائيل، قبل تلك الاتفاقات وبعدها.
لقد تجاوزت اتفاقات أبراهام، التي أدّت إلى “تطبيع” العلاقات بين إسرائيل وكلّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، مبادرة السلام العربية لعام 2002، التي كانت قد اقترحت التطبيع الكامل بعد حلّ القضية الفلسطينية فقط. ومن المنظور الفلسطيني، اعتُبرت هذه الاتفاقات خيانةً، لأنها شرّعت الاحتلال الإسرائيلي، وقوّضت الجهود الرامية إلى تحقيق حلّ الدولتَين.
أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فقد نُظر إلى اتفاقات أبراهام (بشكل غير واقعي) على أنها فرصة لإقامة علاقات مع الدول العربية من دون الحاجة إلى حلّ القضية الجوهرية المتعلّقة بفلسطين. ويبدو أن السياسة الإسرائيلية تتّبع نهج “الهروب إلى الأمام” بشكل دائم، أي السعي الحثيث إلى القضاء على أيّ تهديد محتمل، مهما كان ضئيلاً، سواء من الفلسطينيين أو من دول في الشرق الأوسط الأوسع.
ومع ذلك، من السذاجة البالغة الاعتقاد أن هذا النهج العسكري العدواني يمكن أن ينتج سلاماً دائماً. بل على العكس، ليست العواقب حتميةً فقط، بل متوقّعة تماماً، فهذا الطريق لا يؤدّي إلى الأمن، بل إلى استمرار الصراع وعدم الاستقرار. يجب التأكيد أيضاً على أن ما تُسمّى الـ”تهديدات” الفلسطينية لإسرائيل لا تُشكّل خطراً حقيقياً على وجود الدولة الإسرائيلية نفسها، وادّعاء عكس ذلك إنما هو تشويه لحقيقة اختلال موازين القوى.
قد تنجح إسرائيل، فترةً، في فرض الخضوع على الدول المجاورة، لكن من غير المتصوّر أن يستمرّ هذا الوضع إلى أجل غير مسمّى، فالتاريخ أثبت مراراً وتكراراً أنه لا يمكن لأيّ أمّة أن تحافظ على هيمنتها بالقوة (وحدها) إلى الأبد. لذلك، من الحكمة لإسرائيل أن تأخذ بجدّية العواقب بعيدة المدى لمسارها الحالي، وأن تسلك طريقاً أقلّ تدميراً، طريقاً يخدم، ليس مصالحها الخاصة فقط، بل مصالح المنطقة بأسرها.
كانت ألمانيا النازية تطمح ذات يوم إلى إخضاع أوروبا كلّها تحت رايّة ما سمّته “الرايخ الذي سيدوم ألف عام”. ومع ذلك، لم يكن من المتصوّر أن تقبل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال النازي فقدان سيادتها أو إبادة شعوبها بشكل دائم. وبعد مثل هذه المعرفة، يصبح شبه مؤكّد أن إسرائيل، أيضاً، ستواجه حساباً مماثلاً، سواء استمرّت في اعتداءاتها أم لا. فلا نظام، مهما بلغ من القوة، يمكنه أن يفلت إلى الأبد من حكم التاريخ.
في حين أن النجمة الصفراء لداود تثير ذكرياتٍ مؤلمةً عن معاداة السامية النازية في ألمانيا، فإن العَلم الإسرائيلي الحديث (يحمل الرمز ذاته باللونين الأزرق والأبيض) أصبح، بالنسبة لكثيرين من الضحايا العرب، يمثّل شيئاً مختلفاً تماماً، فبالنسبة إليهم، يستحضر هذا الرمزُ ذاكرةَ الجرائم الحربية الإسرائيلية التي لا تُحصى، وأعمال الإرهاب الصهيوني، والتطهير العرقي، والمجازر الجماعية، وغيرها من التجارب الصادمة العميقة.
ونتيجة لذلك، أصبحت نجمة داود، التي كانت تُعتبر سابقاً رمزاً دينياً وثقافياً بالدرجة الأولى، مرتبطةً في أعين عربٍ كثيرين ارتباطاً وثيقاً بالأعمال العنيفة التي ارتكبتها الدولة الإسرائيلية. وقد تعزّز هذا التحوّل في الإدراك بفعل الظهور المتكرّر للعلم الإسرائيلي في وسائل الإعلام في أثناء عرض مشاهد عمليات عسكرية إسرائيلية. ولذلك، لم يعُد من المستغرب أن يُربط مشهد نجمة داود في أي مكان من العالم، حتى عندما تكون مجرّد رمز ديني، بشكل متزايد بأفعال إسرائيل في الشرق الأوسط.
خلال الحرب العالمية الثانية، كان اليهود الذين عاشوا تحت الاحتلال النازي يحظون كثيراً بالإعجاب لقدرتهم على الصمود من خلال تزوير الوثائق، وإنشاء الشبكات السرّية، ومحاولات مساعدة الآخرين على الهروب من الاعتقال والنجاة من الفظائع التي لا توصف. وفي المقابل، باتت إسرائيل الصهيونية الحديثة تُذكّر بشكل متزايد، لا بمقاومة الاضطهاد، بل باستخدامها التكنولوجيا المتطوّرة في خدمة العنف الجماعي: الأسلحة الموجّهة بدقة، والذكاء الاصطناعي المستخدم في تحديد الأهداف، والانفجارات التي يُتحكّم بها من بُعد، بما في ذلك على سبيل المثال تلك التي فجّرت أجهزة النداء (البيجرات) لقتل عديدين من الأفراد والمارّة في لبنان. وفي مثل هذه الحالات، أظهرت إسرائيل (للأسف الشديد!)، وباستمرار، أنها قوة تجمع بين الكفاءة القاسية وفقدان الموثوقية الأخلاقية.
على الرغم من أن هذا الموضوع يُعتبر عموماً من المحرّمات، لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ أوجه تشابه مقلقة بين النازية والصهيونية كما تمارسها إسرائيل في فلسطين والشرق الأوسط العربي. ولا تقتصر هذه التشابهات على السياسات والأفعال، بل تنعكس أيضاً في اللغة المستخدمة، فعدة تعابير ألمانية نازية تجد أصداء مزعجةً في الممارسات الصهيونية الإسرائيلية في فلسطين مثل “الإبادة” أو “التطهير العرقي”، في إشارة إلى الإزالة المنهجية للوجود الفلسطيني في فلسطين.
“الإبادة” (Ausrotten)، كما في الدعوات إلى تدمير “أبناء عماليق”، وهو مصطلح يستخدمه بعض المتطرّفين الإسرائيليين للتعبير عن رغبتهم في إبادة الفلسطينيين. الحلّ النهائي (Endlösung)، في السياق الفلسطيني، يشير إلى الطرد المنهجي أو الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وهو ما يتم التعبير عنه أحياناً في إسرائيل بمصطلح ملطّف مثل “الترانسفير”. الهيمنة اليهودية (Jüdische Vorherrschaft) تشبه اعتقاد النازيين بتفوّق العرق.
فكما آمن النازيون بتفوّق ما يُسمّى العرق الآري، وسعوا إلى فرض هيمنتهم على اليهود والسلافيين، وغيرهم ممن وُصفوا بأنهم “دون البشر”، كثيراً ما تعكس السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والعرب تصوّرهم “دون البشر” (Untermenschen) أو “حيوانات بشرية”.
وفي كلتا الحالتِين، تشير كلمة “هيمنة” (Vorherrschaft) إلى السيطرة المطلقة، لا مجرّد النفوذ، وغالباً ما تُفرض هذه السيطرة عبر العنف والإمبريالية، وأحياناً بنية إبادة جماعية. “ليس للعرب” (Nicht für Araber) يوازي الشعار النازي “ليس لليهود” (Nicht für Juden)، ويُعبّر عنه أحياناً في الأراضي الفلسطينية المحتلة بشعارات مثل “اطردوا العرب” و”الموت للعرب”.
“ليلة الزجاج المحطّم” (Kristallnacht) تتجسّد في التدمير المتكرّر لمنازل وممتلكات وبنية الفلسطينيين التحتية على يد القوات الإسرائيلية. إسرائيل الكبرى (Groß-Israel) يستخدم أحياناً لوصف إسرائيل تمتد “من النيل إلى الفرات”. العودة إلى الرايخ (Heim ins Reich)، يوازي ذلك في الحالة الإسرائيلية ضمّ الأراضي العربية وإسكان اليهود المهاجرين إليها عبر “علياه”.
“إسرائيل فوق كلّ شيء”، في تشابه واضح مع الشعار (Deutschland über Alles) النازي. حيّز المعيشة (Lebensraum)، المصطلح النازي للتوسّع الإقليمي؛ وكما سعى النازيون إلى تأمين الأراضي عبر تهجير وإبادة الآخرين، يتبع الصهاينة الإسرائيليون سياسة التوسّع عبر الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وما بعدها. “مجتمع الشعب” (Volksgemeinschaft) وهو المثال النازي لجسم وطني متجانس يستبعد اليهود، وغيرهم من “الغرباء”، وتُمارس إسرائيل نهجاً مماثلاً باعتبار غير اليهود (خاصّة الفلسطينيين والعرب) غرباء في أرضهم التاريخية.
قد تكون هناك عدة “حلول نهائية” محتملة بالنسبة لإسرائيل. أحد السيناريوهات هو أن إسرائيل، بعد فترات طويلة من الحرب والصراع، ستنتهي في نهاية المطاف إلى الزوال. قد يؤدي زوالُ مثل هذه الدولة العنصرية والعنيفة على سبيل المثال، إلى ما يمكن تسميته بـ”الانفجار الأخلاقي”. فإلى متى يمكن لنظام يقوم على “الهيمنة اليهودية” أن يستمرّ من دون أن ينهار في نهاية المطاف تحت وطأة الإفلاس الأخلاقي والصراعات الداخلية مثل الحرب الأهلية؟…
أمّا الطريق الآخر، وهو بنّاء أكثر، فهو أن تختار إسرائيل أن تقبل مبادرات السلام العربية التي طُرحت سابقاً، تلك المبادرات التي تجاهلتها بالكامل في حينها. ولا شك أن هذا الطريق الأخير سيكون الخيار الأكثر حكمة لإسرائيل. غير أنه إذا استمرت في رفض هذا الخيار، فإن عنفها وعدوانها المتواصل (وهروبها العدواني المستمرّ إلى الأمام) سيؤدّي على الأرجح في النهاية إلى نهايتها.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الاحتلال يستهدف مجموعات شرطية أثناء ملاحقتها عصابات لصوص بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام استشهد وأصيب عدد من عناصر الشرطة الفلسطينية، مساء اليوم الجمعة، إثر استهداف طائرات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة غزة...

أجبره الاحتلال على هدم منزله في العيسوية فجعل منه محرابا
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام أجبرت بلدية الاحتلال الإسرائيلي، المقدسي محمود عبد عليان على هدم منزله في حي المدارس بقرية العيسوية بالقدس المحتلة...

المظاهرات تعمّ المدن المغربية للمطالبة برفع الحصار عن غزة
الرباط – المركز الفلسطيني للإعلام طالب آلاف المغاربة، الجمعة، وللأسبوع الـ74 على التوالي برفع الحصار عن غزة وفتح كافة المعابر لدخول المساعدات...

حماس: الاحتلال يسعى لكسر إرادة شعبنا بكل السبل وسط غياب الضمير العالمي
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، عبد الرحمن شديد، الجمعة، إن قطاع غزة يواجه اليوم واحدة من أسوأ...

المقاومة تعلن تفجير جرافة وقنبلة برتل لآليات الاحتلال شرق غزة
الخليل- المركز الفلسطيني للإعلام أعلن الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي " سرايا القدس" عن تفجير جرافة عسكرية إسرائيلية وقنبلة من مخلفات الاحتلال...

مظاهرات مليونية في اليمن تضامنًا مع غزة
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام تظاهر مئات الآلاف من اليمنيين، الجمعة، في 14 محافظة بينها العاصمة صنعاء، دعما لقطاع غزة في ظل استمرار الإبادة...

ايرلندا تدعو “إسرائيل” لرفع الحصار عن غزة والسماح بدخول المساعدات
دبلن – المركز الفلسطيني للإعلام حذّرت ايرلندا من استمرار الكارثة الإنسانية في غزة، وأنه لم تدخل أي مساعدات إنسانية أو تجارية منذ أكثر من ثمانية...