الإثنين 05/مايو/2025

إعدام المنقذين .. كيف حولت إسرائيل طواقم الإسعاف إلى أهداف عسكرية؟

إعدام المنقذين .. كيف حولت إسرائيل طواقم الإسعاف إلى أهداف عسكرية؟

رفح – المركز الفلسطيني للإعلام

في كل الحروب، يبقى المسعفون الملاذ الأخير للحياة. هم أول من يصل إلى موقع القصف، يبحثون عن نبض باقٍ، يرممون الأجساد المثخنة بالجراح، يحاولون انتشال الأرواح من تحت الركام. لكن في غزة، بات المسعف هدفًا للاحتلال الإسرائيلي بدل أن يكون المنقذ. لم تعد شارة الهلال الأحمر أو الصليب الأحمر كافية لحمايته، ولم تعد قوانين الحرب تعني شيئًا أمام فوهات البنادق والدبابات الإسرائيلية.

في رفح، حيث تتكدس المجازر فوق بعضها، كانت طواقم الإسعاف والدفاع المدني تسابق الزمن لإنقاذ من تبقى من الجرحى تحت نيران القصف العشوائي، مع بدء توغل جديد في حي تل السلطان غربي رفح فجر 23 مارس الجاري، لكنهم لم يكونوا يدركون أن مهمتهم الإنسانية ستتحول إلى كمين للموت.

14 مسعفًا وعامل إنقاذ فقدوا حياتهم بعد أن تقطعت بهم السبل لمدة 8 أيام، بينما كانت الجرافات العسكرية تغير معالم المكان، تطمر الجثامين تحت الرمال، وكأن الاحتلال لا يريد مجرد قتلهم، بل محو أثرهم أيضًا.

في 23 مارس الجاري، تلقت طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني نداء استغاثة لإنقاذ مصابين في حي الحشاشين برفح. تحرك المسعفون، مدركين خطورة الموقف، لكنهم لم يكونوا يتوقعون أن هذا سيكون نداءهم الأخير. قبل وصولهم إلى المكان، فتحت قوات الاحتلال نيرانها بغزارة عليهم، ليُفقد الاتصال بتسعة مسعفين على الفور. على الفور سارع طاقم آخر من الدفاع المدني لإنقاذ المسعفين والبحث عنهم؛ إلاّ أنهم وقعوا أيضا في دائرة الاستهداف الإسرائيلي، وفقد الاتصال بهم.

بعد انقطاع استمر 5 أيام، تمكنت طواقم الإسعاف، من الوصول للمنطقة، وانتشلت أنور عبد الحميد العطار، قائد فريق الإنقاذ من الدفاع المدني، الذي لم يتبقَ منه سوى بقايا ممزقة من جسده، ووقفت على حجم المأساة وسيارات الإسعاف التي دمرتها قوات الاحتلال، وعادت دون أن تتمكن من العثور على البقية.

في ساحة الجريمة، لم يكن هناك سوى أشلاء ممزقة، وعربات إسعاف وإطفاء محترقة بالكامل، تحولت إلى كتل معدنية عديمة الملامح. كان من بين الضحايا الضابط أنور عبد الحميد العطار، قائد مهمة الإنقاذ، الذي لم يتبقَ منه سوى بقايا ممزقة من جسده.

صبيحة أول أيام عيد الفطر، تمكن طاقم إسعاف من الهلال الأحمر وأوتشا والمنظمة الدولية للصليب الأحمر من الوصول للمنطقة وانتشال جثامين 14 شهيدا، منهم 8 من الهلال الأحمر، والبقية من الدفاع الدفاع المدني، في حين لا يزال المسعف التاسع من الهلال الأحمر في عداد المفقودين وسط مخاوف من تعرضه للاعتقال.

“لم نجدهم إلا بعد أن بدأت أجسادهم تتحلل”، هكذا وصف أحد المسعفين لحظة انتشال زملائه. كانت جثثهم مطمورة بالرمال، وأدوات الإسعاف ممزقة ومتناثرة، في مشهد يعكس ليس فقط استهدافهم المباشر، بل محاولة الاحتلال طمس الجريمة وإخفاء آثارها.

ووفق وزارة الصحة؛ تم انتشال جثامين 8 مسعفين منهم اليوم بعد فقد الاتصال بهم على مدار الأيام السابقة، وجزء من هذه الجثامين كانت مقيدة وتعرضت لإطلاق نار في الصدر ودفنوا عبر حفرة عميقة لعدم الاستدلال عليهم.

ما حدث في رفح لم يكن حدثًا معزولًا، بل هو جزء من سياسة طويلة الأمد انتهجها الاحتلال الإسرائيلي ضد الطواقم الطبية في فلسطين. منذ بدء العدوان على غزة، وثّقت مؤسسات حقوقية استهداف عشرات المسعفين، حيث استشهد ما يزيد عن 1000 من الطواقم الطبية، ودُمرت أكثر من 120 سيارة إسعاف، في اعتداءات مباشرة أو غير مباشرة.

أحد أكثر المشاهد المروعة التي سجلها التاريخ القريب، كان في نوفمبر الماضي، عندما استهدفت إسرائيل مستشفى الشفاء بغارات جوية، مدمرة أقسامه ومخلفًة عشرات الضحايا بين المرضى والطواقم الطبية. لم تكن تلك الضربة الأولى، لكنها أكدت أن الاحتلال لا يرى في المرافق الطبية أي حصانة، ولا يعترف بأي قانون يحمي الأطباء والمسعفين.

حتى المستشفيات الميدانية، التي كانت تعمل لإنقاذ الجرحى وسط الركام، لم تسلم من هذا الاستهداف. منظمة أطباء بلا حدود أكدت أن طواقمها تعرضت لإطلاق نار مباشر في أكثر من مناسبة، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية.

ما يثير القلق أكثر من استهداف الطواقم الطبية، هو غياب أي رد فعل دولي حقيقي يردع إسرائيل عن مواصلة هذه الانتهاكات. رغم أن القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، تنص بوضوح على حماية العاملين في المجال الطبي أثناء النزاعات المسلحة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي يستمر في قتلهم بدم بارد، دون أي محاسبة أو مساءلة.

لقد أرسلت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عشرات المناشدات إلى الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي، لكن الاستجابة لم تتجاوز بيانات الإدانة المعتادة، بينما تستمر الجرائم على الأرض.

بهذا السؤال اختتم أحد أفراد الدفاع المدني حديثه بعد انتشال جثامين زملائه. في غزة، لا وجود للمناطق الآمنة، ولا للخطوط الحمراء، ولا حتى للممرات الإنسانية. عندما يكون المسعف مستهدفًا، والمستشفى قنبلة موقوتة، وسيارة الإسعاف هدفًا عسكريًا، فذلك يعني أن الحرب تجاوزت كل الحدود الأخلاقية والإنسانية.

لكن رغم كل ذلك، لا تزال طواقم الإسعاف والدفاع المدني في غزة تمارس عملها، تحاول إنقاذ من تبقى، حتى لو كان الثمن حياتها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات