مشاهد تاريخية في طوفان الأقصى.. حين يسكت الكلام وتنطق البطولة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام
تمتلئ سجلات الحرب على غزة بصفحات مضيئة من المشاهد التي حُفرت في ذاكرة التاريخ.. مشاهد رسمتها معركة طوفان الأقصى منذ اليوم الأول، ولم تتوقف باستمرارها على مدار أكثر من 15 شهرًا، أكثر هذه المشاهد لم يقف أصحابها أمام عدسات الكاميرات، ولم يعرفوا بالأساس أنهم -دون دراية- سوف تُروى حكاياتهم لأجيال بعد أجيال؛ حيث إنهم صنعوا البطولة بأفعالهم لكونها جزءًا أصيلا من مُكوّناتهم النفسية والعقائدية والسلوكية، فكانت أوضح من أي وصف، وأبلغ من أي كلام.
الطوفان وسحل الجنود
البداية كانت من يوم المعركة الكبرى.. يوم أن انطلق المجاهدون بأسلحتهم الخفيفة نحو معسكرات العدو الصهيوني في مستوطنات غلاف غزة، والتي كانت تحميها وتحيطها فرقة غزة المزودة بأقوى الأسلحة وأحدث التقنيات؛ حيث فوجئ العالم كله بمشاهد فاقت الخيال في جرأة وشجاعة أصحابها، الذين لم يهابوا طائرات الاستطلاع، ولا عدسات المراقبة وانقضوا على جنود الاحتلال وأوقعوهم بين قتيل وجريح وأسير.
بطائرات شراعية زهيدة الثمن، ودراجات بخارية بدائية، وأسلحةٍ خفيفة لا تصمد لخوض معارك دفاعية -فضلاً عن هجوم بهذا الحجم الكبير-، هاجم أسود كتائب الشهيد عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- من البر والبحر والجو، ليباغتوا الغزاة المحتلين في أوكارهم ومعسكراتهم ويسطروا ملحمةً مفصلية في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي منذ النكبة.
إلا أن أكثر ما آلم العدو الصهيوني وأدهش كل المراقبين وترسخ في ذاكرة الدنيا بأسرها، هو مشهد الانقضاض على الجنود داخل دباباتهم المصفحة، واقتلاعهم منها قتلى أو أسرى أو مصابين، وذلك رغم كل التحصينات المزودة بها تلك الدبابات، إلا أن الحق والإيمان الذَين امتلأ بهما قلوب المجاهدين، كانتا كافيتين لاختراق الدروع واقتحام الأهوال، والنيل من قتلة النساء والأطفال.
المقاتل الأنيق
ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ودخوله بريًّا مدجّجًا بدباباته وجرافاته وناقلات جنده، ومغطّى بسرب من الطيران، تعددت مشاهد البطولة لدى المقاومة وفي مقدمتها كتائب القسام وسرايا القدس؛ وكان من بين المشاهد التي جذبت أنظار الجميع بعد شهورٍ من الاستهداف والحصار والدمار، ظهور من عُرف باسم “المُقاتل الأنيق”.
بمعطف أسود طويل وحذاء رياضي ناصع البياض، ومتأبطًا قذيفة “الياسين 105″، تقدّم المقاتل القسّامي في شوارع خانيونس، ووقف بثباتٍ رغم أزيز الرصاص الكثيف حوله، وصوّب نحو دبابة إسرائيلية متوقفة عند ناصية الشارع، وأطلق النار فاشتعل الهدف، إنه المجاهد القسّامي حمزة هشام عامر.
واعتبر محللون أن دلالة المشهد تعني أن المقاومين في غزة لا يرهبون العدو، ويذهبون لقتال قوات الاحتلال جاهزين للقاء الله، في أجمل صورة، فيما وصف صحافيون المقاتل بالأكثر أناقة في تاريخ حركات التحرر الوطني.
يقول الصحافي يوسف الدموكي معلقًا على هذا المشهد الأسطوري: “ملتحفاً بمعطفه الأنيق، خارجاً من نفق تحت الأرض أو مكمن فوق الأرض، لا بد وأنه يغبّر أي قطعة ملابس بذلك اللون، ورغم ذلك كان مهتماً بما يكفي لِأنْ يعدّ رداءه كأنه في يوم عيد، مكمّلاً طقمه بحذائه الرياضي، وبنطاله المهندم، وطلعتُه توحي بأن دوره جاء بعد طول انتظار، معاهداً الله بينه وبين نفسه: “والله ليعجبن الله مني ما أصنع”.
الشهيد الساجد
مع تكرار أخبار مقتل ضباط وجنود الاحتلال في معارك فطاع غزة، والإحباط المعنوي الذي أصاب المجتمع الإسرائيلي بسبب كثرة عودة الجنود في توابيت بعد أن كانوا يظنون أن العدوان على غزة سيكون بمثابة رحلة نزهة، مع تكرار هذه المشاهد، سعى الاحتلال إلى تصدير حالات يزعم فيه أنه ينتصر على جنود المقاومة، ومن هذه الحالات كان مشهد “الشهيد الساجد”.
بطائرة مسيرة تم تصوير أحد جنود القسام في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، وظهر الجندي المقاتل وهو يشتبك مع العدو وحده بسلاحه، وفي خلال الاشتباك طارده الجنود بآلياتهم وأسلحتهم، ومن فوقه كانت تحوم المُسيّرة والتي أطلقت عليه صاروخًا فأصابته بشكل مباشر، لكنه ظل يزحف بإصابته إلى أن أُنهكت قوته، وحين أدرك أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة اتخذ لنفسه موضعًا يتمكن فيه أن يخر لله ساجدًا، وبالفعل سجد المقاتل “تيسير أبو طعيمة” وفاضت روحه وهو على تلك الحال.
البطل تيسير أبو طعيمة (أو الشهيد الساجد) (33 عامًا) كان حافظًا لكتاب الله، وهو أحد أفراد كتيبة الحُفّاظ، كما أنه إمام مسجد فلسطين في بني سهيلا في غزَّة، و أمير فصيل نخبة في كتائب القسام بلواء خانيونس؛ استطاع أن يؤلم العدو باستشهاده أكثر من إيلامه له وهو يقاتلهم؛ حيث بث الإعلام الإسرائيلي المشهد على أنه انتصار على المقاومة، لكنه سرعان ما أظهر بطولة غير مسبوقة لهؤلاء الجنود الأبطال، أمام جيش الاحتلال المأزوم.
المسافة صفر
الدبابة “ميركافا” هي إحدى الدبابات الإسرائيلية المتطورة للغاية ويصفها الاحتلال الإسرائيلي بـ”الأسطورة التي لا تقهر” لمواصفاتها التي تجعلها من الأكثر تحصينًا بالعالم والأقوى في الحروب، وأحدث أنواعها وأقواها ميركافا-4 المزودة بأنظمة أمنية متقدمة وتحصين عال لضمان حماية طاقِمها وأطلق عليها لقب “دبابة القرن الـ21”.
يرتدي جندي الاحتلال سترته الواقية، وخوذته الحامية، ويمتطي تلك الدبابة الأسطورية، ويحتمي بطائرات ترقب دبيب النمل على الأرض التي يقتحمها، وكل شيء مراقب وكل حركة مرصودة، لكنه لم يكن يتوقع أن يخترق جنديٌّ محاصر لا يملك درعًا ولا يلبس سترة ولا يحتمي بغير عقيدته، سيخرج له من بين الركام ليغامر بروحه مسافة لعدة أمتار ويضع عبوةً ناسفة من نوع شواظ فوق تلك الدبابة الحصينة، وينزع منها اللاصق لتنفجر بعدها بثوان، وتفتك بمن فيها قتيلا أو مصابًا إصابة خطيرة.
وقد تفاعل الجمهور مع هذا المشهد البطولي تفاعلا كبيرا، وأبدوا -على صفحات التواصل الاجتماعي- اندهاشهم من هذه الجرأة للجندي الذي لا تعنيه روحه بقدر ما يعنيه إصابة العدو وإيلامه، حتى قالت إحدى الناشطات: “مشهد إعجازيٌّ لبطل حقيقي ما كان ليتحقق لولا وجود إيمان كبير بالحق وعقيدة سليمة قوية وراسخة” مضيفة: “شيء من الخيال.. هذه دروس جديدة في العسكرية يجب تعلمُها”.
عصا السنوار
أما أسطورة طوفان الأقصى، فهو الشهيد القائد يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والذي كان المطلوب الأول لجيش الاحتلال، لكونه مفجر طوفان الأقصى، والذي أرغم العدو وأذله في أعظم وأقوى معركة شهدها الاحتلال على مدار تاريخه.
وكما كانت حياة السنوار مليئة بالبطولات فقد كانت نهايته كذلك أيقونة أسطورية أدهشت العدو قبل الصديق؛ حيث إنه لم يكن يرتضي بموقع القيادة السياسية ليدير المعركة عن بُعدٍ وهو ليس عنصرًا ميدانيًّا فاعلاً فيها، بل قاوم وقاتل وتقدم الصفوف بنفسه حتى ارتقى مشتبكًا مع قوات الاحتلال في حي تل السلطان بمدينة رفح في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024.
عقب استشهاده فوجئ به الاحتلال بين الشهداء؛ حيث لم يكن يعرفون أنه من بين المشتبكين معه، وأظهرت بعد ذلك مقاطع فيديو تُظهر كيف قاوم السنوار جنود الاحتلال حتى الرمق الأخير؛ إذ ظل يقاتل ضمن مجموعته حتى افترقوا، ثم ظل يشتبك وحده إلى أن أصيب وقُطعت يده، فجلس على كرسيٍّ في إحدى البنايات المهدّمة، وفي يده العصا، وإذ بطائرة استطلاع صهيونية تظهر أمامه، وهو لم يعد يملك في يده إلا تلك العصا، فلم يشأ أن ينتهي الموقف حتى يُلقي بآخر ما لديه، وما هي إلا عصاه التي قذفها على تلك الطائرة، والتي صارت بعد ذلك نموذجًا للبطولة والشجاعة.
“رماه بعصا السنوار”.. أصبحت هذه المقولة مضرب الأمثال لإظهار استفراغ الجهد وبذل الروح؛ حيث رأى البعض في هذا الموقف تلخيصًا لحياة هذا البطل الذي أرغم أنوف الاحتلال ووضع أول مسمار في نعشه، وأبى أن يُستشهد إلا أن يرسل له برسالة، مفادها أن في هذه الأرض رجالاً سيرمونكم ولو بحبات الرمال، ولن يدعوكم تمرّوا.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

القسام يبث تسجيلا لأسير إسرائيلي بعد نجاته من قصف قبل أسابيع
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، تسجيلا مصورا لأسير إسرائيلي قال فيه، إنه يحمل الرقم 24، وإنه...

مستوطنون يحتجزون 3 صحفيين في رام الله
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلاماحتجز مستوطنون، اليوم السبت، ثلاثة صحفيين وناشطا في قرية المغير شمال شرق رام الله، فيما اعتقلت قوات الاحتلال...

362 عملاً مقاوماً في الضفة والقدس خلال إبريل
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلامتواصلت أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه خلال شهر إبريل/نيسان...

المجاعة تتفشى بمستويات كارثية والأورومتوسطي يوثق ارتفاعًا حادًا في معدلات الوفاة الطبيعية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ارتفاعًا حادًّا في معدلات الوفاة الطبيعية بين البالغين من سكان قطاع غزة، إلى...

مستشفى الكويت برفح: المخزون الطبي لدينا يكفي لأسبوع واحد فقط
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذّر مستشفى الكويت التخصصي في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، اليوم السبت، من توقف عملياته معلنا أن المخزون الطبي لديه "يكفي...

77 شهيدا و275 جريحا في غزة خلال 48 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم السبت، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 77 شهيدا، و275 جريحا وذلك خلال 48 الساعة الماضية...

ألبانيزي: تجويع الفلسطينيين عار على الضمير العالمي
نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام استنكرت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيزي مواصلة الاحتلال...