الأربعاء 30/أبريل/2025

المياه.. إحدى معارك الخيمة والنزوح في غزة

المياه.. إحدى معارك الخيمة والنزوح في غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

“طوط.. طوط.. طوط” على هذا الصوت فتح مهند عينيه الذابلتين المتعبتين، وبصعوبة بالغة فتح جفني عينيه اللتان يحيط بهما سواد التعب والإرهاق، فتنبه كما كل صباح أنه ليس في منزله الذي اعتاده، إنما في شيء مكون من خشب وأغطية نايلون تسمى “خيمة”.

الخيمة التي ارتبطت في وعي “مهند” بالنكبة والنكسة والهزيمة، يعيش اليوم بداخلها مأساة تتكرر فيها مشاهد رآها من قبل مجملة ببهارات الدراما والتلفزيون في مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الشهير، لمخرجه الراحل حاتم علي.

رفع عنه أغطيته الشتوية جدا والتي لم يكن ليضعها على نفسه في وضعه الطبيعي في مثل هذا التوقيت من السنة، فما زلنا في فصل الخريف بعد، لكن الخيمة التي تبللها قطرات الندى الخريفي تتحول في ساعات الليل إلى ثلاجة حقيقية، فتعادل درجة حرارتها درجة الحرارة في عز أربعينية الشتاء القارس.

حرب المياه في غزة

بالصوت السابق مضافاً إليه أصوات المتدافعين للحصول على المياه الشحيحة، أطفال ونساء ورجال ومسنون، تأكد “مهند” حينها أن سيارة المياه العذبة قد وصلت المخيم، أيقظ أبناءه الثلاثة الناعسين، فالساعة لا زالت في حدود السادسة صباحاً.

“استيقظوا” هي مجرد كلمة لا تعني سوى بدء مرحلة من العمل الشاق الذي لا يناسب أعمار أطفاله الثلاثة الذين لا تتجاوز العشر سنوات، لكنهم كبروا فوق هذا العمر عمرا آخر نتيجة ما يلاقونه من صعوبات بالغة في حياة الخيمة والمخيم.

لم يطل أمر استيقاظهم كثيراً، فجميع من في الخيمة ينام في مكان لا تتجاوز مساحته تسعة أمتار مربعة.

هاتوا الجردل الأبيض.. وقلن المية الأصفر.. القلن الأزرق فيه بعض الماء.. فرغوه وهاتوه خلينا نعبيه.. هكذا نادى “مهند” في أبنائه وانطلق يحمل معهم ما تيسر من أواني لتعبئتها.

“شوف هذا الدور.. مين أحسن وأقل؟ .. خلينا نقف هنا.. بهذه الكلمات وجه مهند أبناءه.. اصطفوا في الدور وبدأت رحلة انتظار مملة.

انسابت المياه على الأرض كما تنساب فيما تيسر للناس من أواني وجرادل وعبوات، شمر الجميع ملابسهم حتى لا تتبلل، لكن دون فائدة.. فكلما غاصت قدم واحد من الموجودين في بركة المياه المتكونة.. تطايرت المياه مشكلة لوحات من الطين على ملابسه وملابس مجاوريه.. فيعلو الصوت عليه يطالبه الجميع بالهدوء والمشي بروية.. ولكن هذه أمنية صعب تحقيقها.. فالتركيز هنا ليس سوى في “بربيش” المياه وليس أي شيء آخر، وجميع المحاذير الأخرى مجرد تفاصيل لا قيمة لها.

الناس هنا معذورون، فالمياه العذبة وحتى المالحة باتت نادرة الوصول إلى مخيمات النزوح، التي باتت تحوي أكبر تجمع سكاني في العالم من حيث الازدحام والتراص.

لا تستغرب أيها القارئ، فحرب الإبادة الصهيونية على غزة خفضت حصة الفرد الواحد من المياه في غزة إلى ما بين 3-15 لترا يوميا في ظل الحرب مقابل معدل استهلاك بنحو 84.6 لترا للفرد يوميا خلال العام 2022.

ولا يتوفر حاليا في قطاع غزة سوى ما بين 10 إلى 20% من مجمل المياه المتاحة قبل الحرب، وهذه الكمية غير ثابتة وتخضع لتوفر الوقود، بحسب معطيات وتقارير فلسطينية رسمية.

ولمن لا زال لا يعلم فإن 40% من شبكات المياه دمرها الاحتلال، مما ترك السكان غير قادرين على الحصول على المياه النظيفة.

وبعد هذا فإن معركة مهند وحوالي 2 مليون إنسان في غزة للحصول على المياه، تعد واحدة من أهم معارك الخيمة والنزوح اليوم في القطاع المدمر المنكوب.

“لو تركنا هذا التقليد الصباحي شبه اليومي من حياتنا هنلاقي حالنا بدون مياه، ومش هنعرف نعمل اشي في الخيمة، فهذه المياه مهمة للشرب وطبخ الطعام، وحتى الغسيل والاستحمام.. لا غنى عنها” يقول “مهند”.

بصعوبة بالغة حافظ مهند على سير الدور.. وعبأ ما أحضره وعاد إلى خيمته منتصراً في معركة الحصول على المياه ليوم واحد، في انتظار يوم جديد يكرر فيه نفس تقليد الاستيقاظ اليومي.

يحدث هذا على أمل أن يصحو في يوم جديد يرى نفسه وقد عاد إلى حارته ومكان سكنه وشقته التي وفر فيها لعائلته كل سبل الراحة، وقد انتهت حرب الإبادة التي قتلت كل آماله وأحلامه على مدار 14 شهراً حتى الآن.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات