السبت 27/يوليو/2024

إنّنا أقوى وأبصَر وأسمَع… وإنّنا لقادمون !

د. أسامة الأشقر

لقد تغيّرت ملامحنا، وذابت شحومنا، ونَحَلت أبدانُنا، وكتمَتْ وجوهُنا واصفرّت، وبزرت عظامنا وتحدّدت، وقد خاف أولادنا، ورُوِّعت نساؤنا، وضاق الخناق على رقابنا، ولا نجد طعاماً نقتاته، ولا شراب صالحٌ نقوم به، ولا دواءٌ يخفّف عنّا ما نعانيه، وقد تشرّدنا تحت السماء المكشوفة، وليس لنا منزل يؤوينا، ولا مكان نأمن فيه أو يسترنا.

إنّنا بشر ضِعافٌ: نظنّ، وننسى، وهذا اليأسُ يَضربنا حقّاً، والضغط الرهيبُ يمسّنا جميعاً بالجنون، ونَهِيم على وجوهنا كل ساعة، لا يردّنا إلى مسؤوليّاتنا إلا أفئدة ما تزال معجونة ببقايا الصبر المتصدِّع الذي لم يجِد محلّاً ينزله سوى قلوبنا المزدحمة بالأسى.

لقد تناهت هذه الشدّة، واستطالت هذه المدّة، وتقطّعت حبال الصبر، وإننا ما زلنا لا نرتاب في وعد الله، ولا نشكّ في قرب الإسعاف والنصر، ونعلم أن أقدار الله تجري على حكمته، وتتصرّف على مشيئته وتدبيره.

هناك روحٌ لم نكن نعرفها قد استوطنت فينا، لقد غيّرتنا، جعلتْنا أقوى مما كنّا نظنّه في قدراتنا وتحمُّلنا، أو أنّها جعلتنا مختلفين كشفت عن حقيقتنا التي كنّا نتدرّب على إعلانها وظهور علاماتها دون أن ندري.

ربّما أصبحنا أكثر عِناداً في وعينا ونظام تفكيرنا، فلهذا لم ننزح خارج أوطاننا، وظللنا قريبين من أنقاض بيوتنا، وتمسّكنا بحب أولئك الذين يسيحون في النضال والمدافعة، ويقاتلون بشرفٍ عنيدٍ.

هذه الروح جعلتنا نملك أنفسنا، وبدأنا نفهمها، بل نتحكّم فيها قليلاً، وبعضنا يتحكّم فيها كثيراً مع اشتداد الكرب، وتذكرتُ وصيّة أبي بكر لعمر الفاروق يوم استخلفه من بعده: “إن أول ما أحذّرك نفسك التي بين جنبيك”، لقد كان يرشده إلى روحه الطاهرة التي ينبغي أن يرشدها ويساعدها لتظهر وتنكشف أكثر وأكثر بكسر الألفة والعادة.

رأينا هذه الأرواح الجديدة ترى بغير العين التي كنّا نرى بها، وبغير الأذن التي كنّا بها نسمع، هي تعيش بهذه الكلمات النبويّة: (إنّ الفرَج مع الكرب، وإن مع العسر يُسراً)، وهي تدرك أكثر منّا هذه المعاني الصادرة من مشكاة النبوّة: (ضَحِك ربُّنا من قُنوط عباده وقُرْب غِيَره)، هذه الأرواح المُلهَمة ترى قرب الفرَج وتغيّر الحال بوضوح كاشفٍ بين ركام القنوط وزلازل اليأس وشدّة الإبلاس، وهي تعلم أن الله يضحك رحمةً بعباده الذي ينزّل اللطف عليهم في بلائهم، وهم لا يشعرون.

إنها الروح التي تدرك أنّ الله هو الذي ينزّل الغيث من بعد ما قنط عبادُه من احتباس القطر وأبلَسوا، وهو الذي ينشر رحمته عليهم، وسيضحك لهم وهم يستبشرون بغيثه الذي يصيب به مَن يشاء منهم.

هذه الروح نهَلت من فقه أُمّنا السيدة عائشة الصِّدّيقة في قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، تقول: واللَّهِ ما وعَد اللَّهُ رسولَه من شيء قَطُّ إلا عَلم أنه كائنٌ قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى خافوا أن يكون من معهم يكذّبونهم. رواه البخاريّ

لقد أضاءت لنا هذه الروح الظلمات التي كانت تلُفّ طرق عبورنا، وطرائق أعمالنا، وكشفت لنا مواضع الخطأ في مسارنا، وأغلقت علينا الكثير من دروب الوهم وخطط التأخير ومنازل الاستعراض والادّعاء، وعرّفتنا سُبلَنا، وجعلتنا أقوى وأبصَر وأسمَع، وإنّنا لَقادمون !

    الرابط المختصر:

    تم النسخ

    مختارات