السبت 27/يوليو/2024

سيف القدس: معركة فاصلة بين زمنين

نجيب مفارجة

شكّلت معركة سيف القدس – والتي دارت رحى أحداثها في صيف عام 2021 – إضافة نوعية ورافعة مميزة للمقاومة ضدّ المحتلّ، وكانت في كل جزئياتها وتفاصيلها تطورا نوعيًّا في طبيعة الصراع، ليس على الصعيد الفلسطيني – الإسرائيلي فحسب، بل تعدّت حتى الدائرة العربية في الصراع مع المحتل، فقد أعادت – من وجهة نظري – الصراع إلى أصله وردّته إلى أساسه: صراع إسلامي – إسرائيلي ، خصوصا مع إطلاق تسمية “سيف القدس” قضية المسلمين الأولى والأهمّ والمجمع عليها بلا منازع، وقد تميزت هذه المعركة بمميزات نوعية ، أستعرضها في هذا المقال .

أخذ زمام المبادرة
ربما لأول مرة في تاريخ الصراع مع العدو يكون للمقاومة اليد العليا ابتداءً وانتهاءً، فهي التي حددت الضربة الأولى: زمانا ومكانا، وبعد أن أخذت – وبقرار – زمام المبادرة وقررت المواجهة بكل تفاصيلها: بنك الأهداف، عدد الصواريخ التي تطلق في كل مرة، إدخال مديات جديدة لدائرة الصراع، إخضاع دولة بكاملها وإجبارها على النزول للملاجئ، تحديد ساعات التجوال والشراء – وحتى النوم – للمحتل، ذلك يعني أن المقاومة كانت صاحبة اليد العليا والطولى منذ البداية – بل وقبلها إذ بادرت، وحتى النهاية – بل وبعدها إذ أصرت أن تكون لها ضربة النهاية “الضربة الأخيرة” – كما الأولى، في لحظة دخول اتفاق التهدئة حيز التنفيذ.

المقاومة والقدس: سيمفونية
بعيدا عن قصف جانبي للقدس عام 2014، هنا لا أقول ربّما – إنّما لأول مرة في تاريخ الصراع مع المحتلّ تضرب مدينة القدس وتقصف بالصواريخ منذ بداية معركة منفردة باسمها ولأجلها، إذ كان ذلك بقرار المقاومة/ حركة حماس تحديدا ، لتقول للعالم أجمع وفي مقدمتهم المحتل ومن يهرولون نحو التطبيع ممّن باعوا أنفسهم ومبادئهم بعرض من الدنيا أن القدس خط أحمر، وأن ما كان قائما سابقا لن يكون على حاله مستقبلا، فالزمن بعد سيف القدس ليس كما قبله، مؤكدة أن كل المحاولات لفرض وقائع على الأرض “التقسيم الزماني والمكاني” ستبوء بالفشل، فالحديث يجري عن صلب عقيدة المسلمين: آية من كتاب ربهم ووصية رسولهم وقبلة أجدادهم، فلا غرابة أن تكون التسمية “سيف القدس”.

لم تكن “سيف القدس” انتصارا للقدس وحدها، إنما لأهلها الذين وضعتهم المقاومة أمانة في رقبتها، ليس منذ اليوم، إنما منذ أربع سنوات في معركة البوابات الحديدة، حيث أكدت المقاومة مرارا وتكرارا، تحديدا في الذكرى الأولى للمعركة أن “سيف القدس ما زال مشرعا وسيبقى”، وأن الاحتلال سيواجه حربا دينية تحرق الأخضر واليابس حال أصر على ممارساته ونقل طبيعة الصراع إلى صراع ديني في القدس، في مقابل ذلك عدّ أهالي القدس المقاومةَ – وفي مقدمتهم حماس – ملهم ثورتهم وبايعوها ورفعوا صور قادتها – الأحياء قبل الشهداء – فوق أسوار المسجد الأقصى في اصطفاف مطلق خلفها، مقابل معاداة مطلقة لأرباب التسوية حين برز ذلك واضحا في منع فعاليات حركة فتح واعتبارها حركة محظورة من قبل الأهالي.

توحيد الجغرافيا
أيضا لأول مرة في تاريخ الصراع تنجح المقاومة في توحيد الجغرافيا الفلسطينية بساحاتها الخمسة: القدس والضفة وغزة وأراضي الـ 48 والشتات، هذا التوحيد الذي ما كان ليتم لولا القرار الشجاع: “امتشاق سيف القدس”، التي تنتفي أمامها كل الجغرافيا والحدود والتقسيمات السياسية، حتما ندم المحتل أشد الندم وهو يرى ما عمله منذ سبعة عقود ينهار أمام ناظريه بضربة صاروخ وخطاب ملثم يعلن بداية مرحلة جديدة، ولربما أكثر ما أزعج المحتل هو أن يصبح عدوه اللدود “حماس” الحاكم الفعلي والمحرك الحقيقي لكل “مواطني دولته” بمواليهم للكيان ومعاديهم، وأن يتحول الشباب المقدسي والفلسطيني في ال48 من شباب ضائع حائر إلى شباب وطني ثائر، ينتصر لدينه ومقدساته، معلنا فشل كل محاولات التطبيع و”التطويع” وطمس الهوية وصياغة فلسطيني جديد على مدى 70 عاما ، ثورة مباغتة في الخاصرة الأضعف للكيان “اللقيط”.

معركة الوعي وانتصار الرواية الفلسطينية
حرب الأدمغة حرب طويلة الأمد مع المحتل مذ أن وجد، لكن – ولأول مرة – يقر العدو بانتصار الرواية الفلسطينية في معركة الوعي، بكل الجزئيات والتفاصيل، تنبؤك بذلك عملية “الإعماء” التي استهدفت كاميرات الاحتلال على طول حدود قطاع غزة الشرقية، والطائرات المسيّرة التي حلّقت فوق العدو: بجنوده وآلياته، تصور مواقعه وتجهيزاته، دون استطاعته إسقاطها – بل وحتى كشفها! ، تخبرك بذلك مئات الصواريخ التي كانت تطلق في الدفعة الواحدة في تحدٍّ واضح لمنظومة القبة الحديدة، ذات الرواية كانت تقر بها آليات العدو المنسوفة من على بعد كيلومترات، علاوة على تشكيل غرفة أمنية مشتركة على شاكلة الغرفتين السابقتين: السياسية والعمليات، وما لذلك من دلالات: أن المعركة القادمة ستكون معركة تحرير مع محور المقاومة لا مع المقاومة فحسب، أمّا الصاعقة التي أذهلت المحتل فكانت في استباق مخططه لاستدراج المقاومة إلى باطن الأرض لدفنها حيّة في الرمل عبر خديعة “الحرب البرية”، وبعد إيهام العدو بنجاح خطته، يستفيق العدو على ابتلاع طعم “المترو أنفاق” ليصاب بفشل ذريع في الوعي والإرادة.

ربما يتناول الكُتّاب معركة سيف القدس كلٌّ من زاويته، يطول الشرح في ذلك وكذا التحليل، ألا إنّ الثابت الوحيد أنّ المعركة شكّلت معركة فاصلة بين زمنين، ولذلك اسماها أهلها “بروفا التحرير”؛ وفق إعلان رئيس مكتب سياسي حماس الذي أبقى نهاية المعركة مفتوحة، مؤكّدين على “امتشاق دائم لسيف القدس، وحتى ذلك يبقون في مرحلة إعداد”، ولربّما بدا ذلك واضحا من خلال شعار معركتهم: “حط السيف قبال السيف.. احنا رجال محمد ضيف”.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات