الأحد 04/مايو/2025

حديث الصبر!

د. أسامة الأشقر

1.هبرْ هبر مليان إِبَر؛ قدّ الكبيبة، إلُهْ شواربْ، وهيبة… هذا كانوا يقولون عنها في حزازيرهم القديمة.

2.كوز الصبر هذا أحبّه لا لطعمه الحلو ومزاجه السكري الثقيل فحسب، وإنما لأجل أن والدي رحمه الله كان يحبّه، هو والتين، وقد اشتريتهما اليوم إكراماً لذكراه، وتجديداً للدعاء له.

3.كان قديماً يأخذنا إلى بساتين في القرى الجبلية، فنرى تلك الأسيجة الطبيعية التي تحيط بها، ولا يكاد أحد يستطيع اختراق حصونها المتراكبة من إنسان أو حيوان خوفاً من أشواكها الحادة الرفيعة التي تنبسط كدُشَم العسكر على ألواحها اللحميّة المفلطحة الدائمة الخضرة، وعلى ثمرتها المخضرّة والمصفرّة والمحمرّة؛ البيضاوية والكروية و”المطاولة”.

4.نسمّيها الصبر، ويسمونها الصبّار والبرشومي (برّيّة الشام)، والبلَس والتين الشوكي والتين البربري… لكنها هي الصبر.

5.وزعم بعضهم أن أصلها نائي الديار عنّا، وأنها جاءت من نواحي أمريكا قبل قرون قريبة، وهذا من الجناية عليها، فقد ذكر القدماء في معاجمهم أن البَلَس ثمر كالتين يكثر في اليمن، والبلس هذا هو الصبر عينه، وربما قالوا في شجره الضَّرِف.

6.وكان أهلنا يحرصون على أكل ثمرتها عقب الوجبات الثقيلة، ويقولون إنها تهضم الدسم، وتريح المعدة والأمعاء الممسكة، وتطيّب رائحة الفم، وتجلو الأسنان.

7.كل شجرة صبار تعني قرية فلسطينية مدمّرة أو مهجّرة أو صامدة، وتعني أهلها، هي رمز عنيد لهذا الوطن المسلوب، وهي جذر كل إنسان عاش عليه.

8.إنها خيمة المقاتل الوحيد الذي لا يجد ملجأ لبندقيته التي يحرسها؛ حتى قالوا إنك تسمع نواح الصبّار إذا فارق المقاتل ظلّها المجروح، ويردد صداه عواء ضبع متربّص، وفحيح حيّة رابضة في أجمتها.

9.لم تتوقف شجرتنا عن النموّ رغم اقتلاع أهلها الذين عقلوا ألواحها، واستنبتوا جذورها الضاربة في الأرض، فهي شديدة الوفاء لهم، ولا تنسى ذكراهم، ولا تخاف النار ولا الإعصار، ألا ترى أنها استغنت عن أي اعتناء بها أو سقاية من أحد، فعاشت بعلاً تستمدّ غذاءها من ماء السماء ورحيق الأرض!

10.عندما أرى شجرتها أتذكّر شواهد القبور التي جمعت الأولياء بالأصفياء، والأحفاد بالأجداد في تلك البقعة الطاهرة، وكأنها رحم مباركة تستولد بَركتها، وتسوّرهم بحمايتها؛ وقديماً زعموا أن سيدنا الخضر قد سكب شيئاً من ماء الحياة عليها فلم تزل خضراء مستغنية عن الرعاية.

11.وإذا طعِمتُ ثمرتَها العسليّة المذاق ذات اللبّ البرتقاليّ المفروز ببذورها الصغيرة فإنها تذوب في فمي كأنها بقلاوة خارجة من الفرن، وأطيب مذاقاتها عندي ما كان نابتاً في تربة خفيفة يتخللها الهواء الرطب على جبل قريب من البحر الملح، وربما عارض هذا أهلنا في نِعلين وبدرس وفقّوعة وتِل، وهي البلدات التي تتفاخر بصبرها.

12.كانوا يجمعون حبات الصبر شيباً وشباباً ورجالاً ونساء وكبار وصغاراً في موسمه باللقّاطة أو الطوالة، وعادة ما تكون عصا طويلة منتهية بعلبة معدنية يدوّرونها على الثمرة الملتصقة باللوح الأخضر، ثم يجذبونها.

13.وموعد جني ثمرتها قبيل بزوغ الفجر عندما تكون أشواك الثمرة طرية ناعمة مغطّاة برطوبة الندى، أما إذا ارتفعت الشمس فإنها شوكتها الرفيعة تصلب وتنغرز بسهولة في الجلد، حتى تتوزّم جلودنا من حساسية لسعتها؛ وكان بعضهم يفرك الثمار بالتراب ليتساقط شوكها، أو يجعلونها في سطل أو علبة كبيرة ويسلّطون عليها ماء مضغوطاً شديداً، وكنا نهاب الماء الذي نغسل فيه الصبر فهو من شدة لسعه يصيبنا بما يشبه أثر الحرق؛ كما كانوا لا يجنون ثمرتها في مواسم الريح لئلا تتطاير إبرها فتصيب العين وتدميها، وأما قشورها فهي “دبال” سماد ينعش التربة ويغنيها.

14.وقد حاول أولئك الأوغاد المحتلّون كعادتهم أن يسرقوا منا ممالكنا فسمّوا ذلك الجيل المولود منهم على أرضنا التي اغتصبوا منا شجرتها، وتعاملوا بصبر مع شوكها بأيديهم العارية “صباريم”، وأنّى لهم أن تتنازل شجرتنا عن هويتها وأهلها.

15.إنها اليوم غذاء ودواء، وهي تجارة وضيافة، وهي وطن مستديم لا ينسى صاحبه القديم، وهي الحكيمة التي تستولد من ألواحها المرّة ثمرة حلوة طيبة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات