في حضرة الراحل الشاعر المحدّث عبد الغني التميمي

عندما ترتقي روح مؤمنة في رمضان فإن ذلك علامة قبول ورضا يرجوها الناس لهم، فكيف إذا كانت خاتمته في ليلة الجمعة من رمضان المبارك، وهو الشعور المزوج بالمسرّة الباكية التي ألمّت بي فور أن قرأت نبأ رحيل شيخنا الدكتور عبد الغني التميمي بعد سنوات طويلة من الغياب القسري عن الظهور بسبب المرض الذي اشتدّ عليه حتى أسلمه إلى ربّه راضياً مرضيّاً.

كان أول عهدي بالشيخ مطلع التسعينيات بابتسامته الهادئة التي تعلو وجهه المدوّر العريض، ولحيته الكثّة المهيبة، وحطّته البيضاء أو الحمراء التي تغطي رأسه، وجلبابه الضافي الذي يضم بدنه المليئ، وقامته المربوعة المائلة إلى القصر، ومشيته البطيئة، وتواضعه الخاشع، ومنطقه المنظوم، ودماثته الظريفة.

ولم يكن يزور دمشق إلا يكرمني بزيارات عديدة، ويشرفني بلقائه، ويقضي وقتاً طويلاً في مسامرتي ومحاورتي، وكثيراً ما يلحّ عليّ أن يكون مجلسنا عامراً باللغة والأدب والتاريخ، وكان يقول: إن أهل الحديث كثيرون حولي، وأحبّ أن يكون لي نصيب مع معشر الأدب، وكثيراً ما قابلتُه حيث يسكن في زياراته، ويكون معه نفر كريم من علماء فلسطين يؤنسون المجلس بمفاكهاتهم المرحة ومناقشاتهم الذكية.

الشاعر المحدث عبد الغني التميمي
وقد التزمتُ له ألا يكون هناك موسم شعريّ تنظمه مؤسسة فلسطين للثقافة إلا أن يكون على رأس المدعوّين فيه، والصادحين بقصائدهم في ميادينه، ولاسيما قصيدته الصارخة التي كان الناس يحبون فخامة إيقاعها وقوة نزولها: “أعيرونا مدافعكم” و” لا تغضب” وقد تركتا أثراً واضحاً لكثرة من كان يحفظها ويعارضها من الشعراء المنبريين.

وكان يحبّ أن يلقي شعره وسط أهل الأدب والفنّ ويقول إنه يحب أن تُسمع كلماته عندهم، فلديهم إحساس مرهف بكلامه، وذوق محسوب لأشعاره؛ ولم يكن يتردد أن يكون بين شعراء الطوائف والتيارات والأفكار المخاصمة، ويتعامل معهم بأدب جمّ ومناقشة لطيفة، ويقضي وقتاً طويلاً في محادثتهم وملاطفتهم ومودتهم.

وكان يعهد إليّ بكل قصيدة يكتبها في أيّ مناسبة لأضعها في موقع المؤسسة على شبكة الإنترنت، ثم يتابع تفاعل الناس معها، وكان أكثر قصيدة حرص عليها قصيدته في رثاء الشيخ الدكتور أبي حذيفة عبد الرحمن بارود رحمه الله .

وعندما ألححت عليه أن أطبع أحد دواوينه ضمن إصدارات الحملة الأهلية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009 طلب إليّ أن يكون ديوانه المطبوع معبّراً عن إحساسه الشعريّ ونبضه الفني وتأملاته الحياتية وسخريته وفكاهته وملاحظته، لأنه يريد أن يكون شاعراً لا خطيباً في ديوانه هذا، وقد كان له ما أراد فأصدرنا له ديوانه “الظل والحرور” والذي تميّز بتنوعه وقصر قصائده وإلحاح مقطوعاته وتنوّع موضوعاته ومرحها وحيويتها، وكنا قد أصدرنا قبل ديوانه هذا ديوان “براءة” عام 2006 الذي ضمّ كثيراً من مرافعاته الشعرية التي جمع فيها بين التفعيلة والعمود الخليلي، والموسيقى القصيرة العالية الرنين على نمط أشعار أحمد مطر حتى خلط الناس بين أشعارهما، وقد صدر له قبل ذلك مختارات شعرية في “ملحمة القدس” الصادرة من مركز الإعلام العربي بالقاهرة، و”رسالة من المسجد الأقصى”.

كان الشيخ يعرف حبي للتوثيق فيدفع لي بعضاً من سيرته لتدوينها في مذكراتي، فيقول لي إنه عبد الغني بن أحمد جبر مزهر التميمي، وأنه ولد في قرية دير نظام في رام الله عام 1947م، وكان المولود الثالث لوالديه من اثني عشر أخاً وأختاً؛ ودرس في قرية عبود القريبة المرحلة الابتدائية، وتفتّقت قريحته الشعرية في أثناء دراسته الأولى بقصائد حاز فيها جوائز محلية وتكريم محدود، وتنشّأ في فلسطين محبّاً للرعي والزراعة جائلاً في الجبال المقدسة مطلقاً بصره فيها.

وبعد أن أتم العشرين ارتحل لدراسة المحاسبة في باكستان، ثم انصرف عن هذا العلم بعد عام، فاتجه صوب المدينة النبوية، ودرس المرحلة الجامعية في الجامعة الإسلامية بكلية الشريعة، وتخرّج فيها عام 1975م، وبعدها بسنوات أتمّ مرحلة الماجستير في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ثم الدكتوراه وتخصص في علم الحديث عام 1983؛ وظل أكثر حياته يسكن السعودية في عاصمتها الرياض حيث عمل أستاذاً مشاركاً للحديث وعلومه في جامعة أم القرى، وكليات التربية الجامعية للبنات في الرياض، وحاضر في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة القدس عام 1984 لعامين قبل أن يبعده الاحتلال عن فلسطين، ويعود إلى السعودية.

وأسس جمعية الحديث الشريف مع نفر من زملائه في مدينة الزرقاء الأردنية في أول الألفية الثانية، ثم كان أول رئيس منتخب لهيئة علماء فلسطين بالخارج؛ ومن كتبه المتخصصة في مجاله: “قواعد في تصحيح الحديث وتضعيفه”، والأصول العامة لمناهج المحدثين، وقواعد الاختصار المنهجي في التأليف، وتخريج الحديث النبوي.

ومن كتبه الموجزة ” فضل الزراعة والعمل في الأرض”، كما صدر له كتيبات صغيرة مثل هدية اللبيب من أدب المشيب، وأدب الطبيب المسلم، ورسالة إلى المريض، وله أرجوزة طريفة في الآداب العامة سمّاها ” إتحاف الشباب بأرجوزة الآداب”، وأكثر مقطوعاته العامة المتناثرة جمعها في ديوانه الظل والحرور.

كان يخبرني أنه أحب الأدب من صغره فكان يحفظ للمتنبي وأبي تمام وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ثم يقرأ لشعراء عصره مثل عمر أبو ريشة وهاشم الرفاعي والجواهري… وكان شعره ذا صبغة إسلامية واضحة صريحة تنعكس فيها شخصيته المتدينة الملتزمة، ويصدر في دواوينه عن رؤية حاكمة على شخصيته الملتزمة تتمثل في أن الشعر أداة تعبيرية توصل معاني خادمة لما يعتقده لشرائح المجتمع المختلفة، وبمعنى آخر فإن الشعر عنده من أدوات الدعوة، لذلك يحرص في شعره على مخاطبة جمهوره ومخالطتهم ومشاركتهم في المعنى المراد توصيله، لذلك تجده ميالاً إلى استخدام اللغة الخطابية المنبرية ؛ يتحرك الدكتور التميمي في مربعات نفسية خصبة تعتمد أساليب مباشرة في الاتصال والتفهيم والتبليغ وإثارة العواطف، ويستخدم العمق الديني كثيراً للوصول إلى عاطفة المتلقين فيخاطب فيهم انتماءهم الديني ومعتقدهم، ويجعلهم جميعاً في مستوى خطابٍ واحد بكونهم مسلمين لا تفرقهم الجغرافيا أو العرقيات أو الألوان، ولذلك برز كثيراً من خلال نشاطه في رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض.

كانت فلسطين هي العنوان الأكثر بروزاً لدى الشيخ الراحل في كل أشعاره بل إنه بنى ديوانه “براءة” وديوانه “ملحمة القدس” عليها فهي تسكن في تضاريس ديوانه، فتجدها في المُفتَتَح أو المُختتَم أو المعرض، وهي شغله الشاغل، وموضوعه الرئيس؛ فقضية فلسطين عنده قضية شرعية لا تقبل المساومة أو المفاوضة، وهي عنده بمنزلة النص الشرعي المقدس غير القابل للتعديل أو الشطب أو الاستبعاد.

وأحسب أن الواجب على أحبابه أن يجمعوا شعره المتناثر ويجعلوه في ديوان جامع لأعماله الكاملة، وأحسب أنه سيكون من وراء ذلك مجلد كبير يحكي فكر هذا الشيخ ورسالته.

رحم الله الشاعر المحدّث الداعية الخاشع أبا عبد الله عبد الغني التميمي وأكرم نزله وأحسن وفادته، وعوضنا عن فقده جبراً وخيراً.