بريطانيا وحماس

لعل من أغرب المفارقات أن يكون قد طرح قبل أسابيع قليلة موضوع مطالبة بريطانيا بالاعتذار عن دورها التاريخي في نكبة الشعب الفلسطيني، سواء من خلال وعد بلفور أو من خلال الانتداب البريطاني الذي مهد الطريق أمام الصهاينة ليغزوا فلسطين ويستولوا على أراضيها ويطردوا منها ساكنيها، ومطالبتها بدفع تعويضات ولو عن جزء يسير جدًّا مما تكبده الفلسطينيون من خسائر وما خاضوه من معاناة. ولكن بدلاً من ذلك تصر بريطانيا على توجيه صفعة جديدة لفلسطين وأهلها، بقرار يؤكد استمرار وقوفها مع المحتل المعتدي، يبرر ظلمه ويجرم ضحاياه.
ما كانت بريطانيا لتقدم على إعلان حركة حماس منظمة إرهابية وتجريم التعامل معها أو التعبير عن التأييد لها لولا تغير البيئة العربية التي تحولت من بيئة شبه حاضنة للمقاومة ولحركة حماس إلى بيئة معادية للمقاومة ومناوئة للحركة. فالعداء الشديد الذي ما لبثت تبديه خلال السنوات الأخيرة أنظمة عربية مثل الإمارات والسعودية لحركة حماس، وفقد الحركة السودان كحليف استراتيجي بعد الانقلاب الأخير، وانغماس القيادة السودانية الجديدة في وحل التطبيع، كل ذلك شجع اللوبي الصهيوني على اغتنام الفرصة والتأهب لانقضاض جديد وشرس على المقاومة وفصائلها وأنصارها.
يرجع استهداف هذه الأنظمة لحركة حماس إلى كونها مصنفة في معسكر الثورات العربية، ولكونها أيضاً تنتمي إلى المدرسة الإخوانية، التي تعتبرها هذه الأنظمة عدوها اللدود، بسبب تصدرها لقيادة عملية التحول الديمقراطي في البلدان التي هبت فيها نسائم الربيع العربي. ولا يستبعد أن تكون الإمارات والسعودية تحديداً قد مارستا ضغطاً مستمراً على الحكومة البريطانية وغيرها من الحكومات حول العالم لإشهار مزيد من الأسلحة في وجه حركة حماس كجزء من حملتهما العالمية ضد جماعة الإخوان المسلمين، وهي الحملة التي أنفق البلدان عليها الملايين سعياً للتأثير على صناع القرار وأصحاب الفكر ورجالات الإعلام، رجاء الوصول إلى أكبر شريحة داخل الرأي العام.
إلا أنه ليس من المستبعد إطلاقاً أن يكون قد ساهم في اتخاذ هذا القرار الموقف الشخصي لوزيرة الداخلية البريطانية الحالية بريتي باتيل. فهذه المرأة ذات ميول صهيونية معلنة، وليس سرًّا أن لديها علاقات شخصية قوية تربطها مع كبار المسؤولين الصهاينة في الأوساط السياسية والأمنية والعسكرية على حد سواء، ولطالما احتفى هؤلاء بها واستضافوها، حتى أنها فقدت وظيفتها كوزيرة للتنمية الدولية في حكومة تيريزا ماي عام 2017 بسبب فضيحة تسربت إلى وسائل الإعلام البريطانية حول لقاءات أجرتها مع القيادات الصهيونية بدون تفويض من حكومتها، وذلك أثناء زيارة خاصة كانت تقوم بها إلى فلسطين المحتلة، بهدف التأثير على سياسة وزارتها في تمويل بعض مشاريع التنمية التي تخدم الفلسطينيين داخل الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومما لا شك فيه أن الحكومة البريطانية بقيادة بوريس جونسون تجد حافزاً إضافياً على اتخاذ هذا القرار في هذا الوقت بالذات بفضل التحول الذي طرأ على حزب العمال بعد الانقلاب على الزعيم التاريخي جريمي كوربين، المعروف بتأييده لحقوق الشعب الفلسطيني وانتقاده اللاذع للممارسات الصهيونية القمعية ضد الفلسطينيين، ومن ثم رضوخ قيادة الحزب الحالية إلى المطالب الصهيونية بإشهار حربة معاداة السامية في وجه خصوم إسرائيل داخل الحزب وكأداة لتطهير الحزب من رموزه المنحازة إلى الحق الفلسطيني. وبذلك فلا يتوقع أن يجد مشروع قرار تجريم حماس ومن يناصرها معارضة ذات وزن عندما يعرض للنقاش داخل البرلمان البريطاني.
ولكن على الرغم من أن القرار البريطاني مؤسف ومزعج، ويشكل نصراً سياسياً ومعنوياً لإسرائيل وأنصارها، إلا أنه لن يكون له كبير أثر على النضال الفلسطيني، فالقضية هنا ليست حماس، وإنما فلسطين. فحركة حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية المناضلة ما هي سوى أدوات أبدعها الشعب الفلسطيني في مسيرته النضالية الطويلة من أجل الحرية والكرامة واستعادة الوطن السليب، وهذه الأدوات قد تضعف وتقوى، بل ويمكن حتى أن تنتهي، وإذا ما انتهت فلسوف تستبدل ويظهر غيرها لا محالة لتسلم الراية واستئناف المسير. فالمهم هو الفكرة، وهذه هي التي تظل حية ما عاش المؤمنون بها، إنها فكرة أن المشروع الصهيوني مشروع استعماري استيطاني دخيل وخصم للأمة بأسرها، مشروع لا مفر من أن يتحرر منه أهل فلسطين، بل والعرب أجمعون.
ولا حتى يتوقع أن يكون لهذا القرار كبير أثر حتى على حركة حماس، فهي لم يكن لها نشاط رسمي في بريطانيا حتى تفقده، وليس لديها مكاتب ولا مؤسسات ولا ممثلون ولا ممتلكات. نعم لديها أنصار ومؤيدون، وهم كثر، ولكن حتى هؤلاء لا يعملون لحماس وإنما لفلسطين، ومناصرتهم لحماس نابعة من كون مشروعها يمثلهم أكثر من المشاريع الأخرى المطروحة على الساحة.
ومع ذلك، ينتظر المراقبون ليروا ماذا سيعني مثل هذا التشريع على أرض الواقع، وهل هو مجرد مجاملة للصهاينة وأنصارهم، وربما محاولة لاسترضاء من طبع من العرب علاقاته مع الصهاينة ودخل في تحالف معهم، أم إنه سيترجم إلى إجراءات قضائية وقانونية محددة.
ولكن لربما كان أكثر المتضررين من مثل هذا التوجه هو الدور الذي تسعى بريطانيا للاحتفاظ به في القضية الفلسطينية. فلطالما عارضت مؤسسات الدولة البريطانية مثل هذا العداء السافر ضد حركة حماس لعلمها أن الحركة تمثل قطاعاً كبيراً من الفلسطينيين وهي لاعب أساسي لا يمكن تجاهله. وقد تواصلت بعض جهات الدولة البريطانية من قبل مع حركة حماس في مناسبات عديدة بشكل غير رسمي لحل بعض الإشكالات وللتوصل إلى بعض التفاهمات. فيما لو أصبحت حركة حماس بكل كياناتها منظمة إرهابية كما يراد من هذا التشريع المقترح، فإن بريطانيا ستفقد القدرة على ممارسة أي دور ذي معنى في مساعي حل الصراع في الشرق الأوسط.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

قتلى وجرحى في تفجير مبنى بقوة من لواء غولاني برفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...

الاحتلال يحول الصحافي الفلسطيني علي السمودي إلى الاعتقال الإداري
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام حوّلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، الصحافي الفلسطيني علي السمودي من جنين، شمالي الضفة الغربية،...

“موت ودمار لا يمكن تصوره”.. منظمة دولية تطلق نداءً لوقف النار في غزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام أطلقت "منظمة أوكسفام الدولية"، نداءً مفتوحًا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، محذّرة من استمرار الكارثة...

شهيد وإصابات برصاص الاحتلال في البلدة القديمة بنابلس
نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد شاب، متأثرا بإصابته برصاص الاحتلال الإسرائيلي، خلال اقتحام البلدة القديمة من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية...