الجمعة 21/يونيو/2024

حديث الجرمق لـابن عامر.. عن فلسطين العميقة وأهلها

فراس أبو هلال

هل أتاك حديث جبل الجرمق؟ هو أعلى جبل في فلسطين، يسكن بجانب الجليل الأعلى وصفد، ويطل على نهر الأردن وطبريا وعكا والجليل الأسفل وحيفا ومرج بيسان وابن عامر ومرج الحولة.

عندما تغفو فلسطين -وقليلا ما تغفو- يبقى الجبل صاحيا، يسرح بنظره الثاقب إلى الجنوب، فيرى جبل الكرمل وجبال نابلس -عيبال وجرزيم- وإذا نظر يسارا يتأكد دائما أن الجولان لا يزال قابضا على الجمر والعشق. من صخره العالي الأخضر يرى الفلسطيني كل نقطة في بلاده، من شمالها لجنوبها ومن نهر الأردن للبحر المتوسط، حيث لا تتوقف مياهه الزرقاء عن كتابة قصائد العشق بالأرض وأهلها، ولا تكف أعماقه عن “الرواية”.

إذا تنفس الصبح في فلسطين، وقبل أن يصحو الغزاة والقتلة، يحلو للجرمق أن يحكي، وليس مثل مرج ابن عامر من يجيد الاستماع للحكاية، يهمس الجبل لصاحبه بصوت عربي فصيح، لا يفهمه الغرباء، يقرأ له كل يوم قصة الأرض والناس الذين بقوا على أهبة الصمود والذاكرة، لا يمل الجبل من تكرار الحكاية، ولا يمل ابن عامر من تكرار سماعها. كلاهما يعرف الوجوه جيدا، ويستطيع أن يفرق بين أولئك المزروعين عميقا في الأرض حتى مركزها اللانهائي، وأولئك الطارئين المدججين بالسلاح والخرافة.

ومع أن الجبل يطل على كل فلسطين، ويرى كل بقعة فيها، إلا أنه يميز أكثر “فلسطين العميقة”. مدن الساحل وقراها، المجدل، اللد، الناصرة، ولا ينسى وجه “أم الفحم” التي ينطبع من انعكاس شمس الصباح واضحا على تضاريسه.

يسميها “فلسطين العميقة” لأنها كانت أول الخسارات أمام الغزاة، ولكنها أيضا أول الصمود. كانت أول الكوابيس، ولكنها أيضا أول الأحلام. في حديث الجرمق لـ”ابن عامر” يختلط الحب بالغضب، والضحك بالبكاء، والقهقهقة بالنشيج. يبتسم الجبل عندما يتذكر ثورة 1936، ويزداد علوه حتى لا يكاد “ابن عامر” يرى وجهه عندما يتذكر ابن جبلة السورية، عز الدين القسام، ويبكي طويلا بصوت مكتوم حتى لا يسمعه الغزاة ويفرحون عندما تصل الحكاية إلى “دير ياسين” و”قبية”، وينتفخ فخرا عندما يفتح الفصل الألف من فصول الثورة ليجد صورة عبد القادر الحسيني تزين صفحاته، ويتوقف عن التنفس عند صفحة أيار 1948، وفي كل مرة يصل فيها عند هذه الصفحة يغيب عن الوعي فيرتجف “ابن عامر” خوفا عليه من الموت، ولكن الحياة تدب فيه من جديد، وتعود الدماء للجريان في شرايينه كمياه نهر الأردن، ويتعالى في هذه اللحظة، لحظة “يوم الأرض” ليصبح مطلا على كل بقعة في الكون، وليس فقط على أرض فلسطين.

لا يفرق الجرمق بين أبنائه عندما يتعلق الأمر بحراستهم من الغزاة، ولكن قلبه يميل لأبناء “فلسطين العميقة”، فآباؤهم وأجدادهم هم الذين بقوا في الأرض أول الأمر، وهم الذين أفرغوا سردية الغزاة من مضمونها، وهم الذين يتمنى الغزاة كل يوم أن يصحوا فيجدوا أن المتوسط قد ابتلعهم، وهم الذين صمدوا في فترة الحكم العسكري، وهم الذين يحفِّظون أبناءهم أنها “نكبة” وليس استقلالا، وهم الذين يحفظون عن ظهر قلب “موطني” ويعلمون أن “هاتيكفاه” كذبة كبرى مثل كل رموز الغزاة، وهم الذين وقفوا مع شعبهم في الضفة والقدس غزة عند كل منعطف، وهم الذين يسميهم الغزاة عربا فيما تخلى عنهم العرب زمنا طويلا، ولكنهم بقوا على اعتزازهم بعروبتهم، ومعها ظلوا يسمون أنفسهم “فلسطينيين”، لأنهم يعلمون أن “فلسطينيتهم” تقهر الغزاة، وتثبت عشقهم الأبدي للوطن والتاريخ والشعب الممتد من البحر إلى النهر!

القدس وفلسطينيو العمق
 
القدس هي العقدة في الصراع، أو لنقل العقدة الأكبر. منذ الاحتلال الأول ثم النكسة وهم يبحثون بجرافاتهم وبلدوزراتهم عما يثبت “الخرافة” دون جدوى. يعلمون أن هذه الخرافة لا يمكن أن تكتمل دون تفريغ القدس من أهلها وإيجاد أي دليل عليها تحت الأقصى والقيامة. أهل فلسطين العميقة يدركون ذلك أيضا.

منذ عقود يشد فلسطينيو العمق رحالهم للقدس لقتل الخرافة، يقطعون عشرات الكيلومترات خصوصا في أيام الجمعة وفي شهر رمضان المبارك، يقومون بذلك نيابة عن أكثر من مليار مسلم يؤمن كلهم بأن الرحال لا تشد إلى إلا ثلاثة مساجد منها المسجد الأقصى.

تستمر المعركة في القدس بعيدا عن السياسة والمفاوضات تحديدا بين أهل “فلسطين العميقة” وبين الغزاة. يتسلح القتلة بالبنادق والخرافات والجرافات والقوة العاتية، ويتسلح فلسطينيو العمق بالحب، وبالصلاة، وبالخيط الواصل بين الأرض والسماء من صخرة المعراج حتى سدرة المنتهى. يرحلون من مدنهم وقراهم بالباصات والسيارات وأحيانا مشيا على أقدام العشق الإلهي، يركضون بخفة الأطفال نحو البقعة التي صلى بها النبي عليه السلام بإخوانه ليلة الإسراء، ولا ينسون في طريقهم نحو المصلى المرواني أن يأخذوا زادا من الكعك المقدسي المسمسم بالإيمان، يفترشون الأرض في الساحات القريبة من باب العامود، ولا تكتمل فرحتهم إلا عندما تشخص أنظارهم نحو وجه صلاح الدين في محرابه المغروس بالأرض والصاعد نحو سقف السماء.

في الرحلة نحو القدس، يمر أبناء فلسطين العميقة على أطلال حي المغاربة، يسلمون على محبي الأقصى من عرب وأمازيغ المغرب الأقصى، حيث كانوا يزورون البلدة القديمة في رحلتهم إلى بيت الله الحرام. بنى المغاربة حارتهم لتكون دليلا على حبهم للمدينة، وعلى ارتباط المؤمنين في كل العالم بمسجدهم، وعلى التصاق البشر بأحجار الطرق القديمة. بنى المغاربة المدينة لأنهم يعشقون الحياة، وهدمها الغزاة لأنهم منذورون للموت والدمار. لم يعد الحي مغاربيا في الشكل، ولكن روح عقبة بن نافع الفهري القرشي وروح يوسف بن تاشفين الصنهاجي تحلقان فوق خيالات الجدران والدور المهدمة، يراهما فلسطينيو العمق في كل رحلة يذهبونها للقدس.

بين أهل فلسطين العميقة والقدس قصة وجد تتجدد كل يوم، يجتمع فيها التاريخ مع الحاضر فيرسمان لوحة من الألم والأمل، وتحفظ ما تبقى من الجدران القديمة قصة المدينة مع أجدادهم، يحضر عمر فوق دابته فاتحا كل صباح، ويتلاشى غزاة كثيرون مروا على المدينة، ويختلط صهيل خيول جيش صلاح الدين مع صوت الأذان، ويحضر المسيح في درب آلامه نحو القيامة، يسلم عبد القادر على فلسطيني العمق وهم يطاردون حلم التحرير. يحضر الغزاة أيضا، ولكنهم يظهرون على حقيقتهم غرباء، فيما تتشابه حجارة أزقة الأسواق في البلدة القديمة مع وجوه أبناء فلسطين العميقة. تعرف الأرض دائما أبناءها الحقيقيين.

قد يخطئ البشر والوثائق المزورة والمعاهدات المكتوبة بموازين القوى، وقد تخطئ الأمم المتحدة واليونسكو وحفارو القبور الذين يسمون “علماء آثار”، وقد يخطئ المفاوضون -وكلهم خطاءون- أما الأرض فلا تخطئ أبدا، وهل يمكن للأم أن تجهل عن أبنائها؟ وهل يمكن لسرة الأرض أن تنسى أطفالها الذين لا تزال تغذيهم بالحب والبهجة والوجد والحنين والثورة والشهادة واليأس أحيانا والأمل دائما؟

في الرحلة نحو القدس، يتمسك فلسطينيو العمق بأمل الوصول أحياء للمساطب وحنفيات المياه وباب نابلس، ولكن الغزاة يحاولون قتل الأمل دائما، ويفشلون دائما. يقتلون الزاحفين أحيانا بسلاحهم وعنصريتهم. يموت الشهداء ولكنهم يموتون واقفين، يحبون الحياة ولكنهم يدركون أيضا أن الوصول إلى الصلاة في القدس يستحق التضحية، فـ”ركعتان من العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم” أحيانا!

اللد
 
“مد جناحيك على الكرمل.. واللد والرملة والمجدل”. كانت هذه القصيدة لعبد الكريم الكرمي تدرس في المدارس الابتدائية، قبل أن تتصهين المناهج الدراسية! كانت الصورة المرافقة للقصيدة في الكتاب المدرسي على ما أذكر هي صورة طائر يحلق بجناحيه. لو كنت مكان لجنة المناهج لوضعت صورة لجبل الجرمق، فهو الآخر يمد جناحيه على الكرمل واللد والرملة والمجدل.

لسنوات طويلة ظلت “اللد” في خيالي وخيال أبناء جيلي هي تلك المدينة التي تمر على عجل في قصيدة “أبو سلمى”. كانت ترتبط أيضا بالرملة، فلا تكاد تذكر إحدى المدينتين إلا وذكرت الأخرى، ولا غرابة فالمسافة بين بطينهما الأيمن لا تتجاوز خمسة كيلومترات من التاريخ والجغرافيا والنضال والعذابات المشتركة.

كانت المدينة بحسب كتب التاريخ عاصمة لفلسطين التاريخية عندما بدأ الفتح الإسلامي لها في عهد الفاروق عمر. وصارت اللد عاصمة لفلسطين مرة أخرى أثناء الانتفاضة العظيمة التي بدأت في القدس وانتقلت إلى غزة والضفة وفلسطين العميقة في رمضان المبارك.

تحركت اللد وما تبقى من أبنائها الأصليين عندما توسعت المواجهات مع الغزاة في القدس وغزة. صارت المدينة عاصمة الثورة وليس فقط عاصمة التاريخ أثناء الأحداث. استشهد فلسطيني وجرح الكثيرون في المظاهرات، واستطاع “اللدادوة” أن يحرروا مدينتهم لعدة أيام. كان وزير حرب الغزاة يدرك خطورة انتقال الثورة إلى اللد، وصار يشعر بالخطورة أكثر عندما انتقلت الانتفاضة منها إلى كل مدن العمق الفلسطيني. في لحظة من اللحظات كان جيش الاحتلال يريد وقف العدوان على غزة حتى لا تتدحرج الأمور في اللد وغيرها من مدن فلسطين العميقة، فهم يدركون أن اللد لا تقل خطورة على احتلالهم وسرقتهم من غزة، بل ربما هي الأخطر عليهم.

مع تصاعد الأحداث عرفنا وجوههم الفلسطينية دون تدقيق، كانت وجوههم تشبهنا، وتشبه اللد. لمحنا في عيونهم فرحا واضحا بلحظة الولادة، ولادة تاريخ جديد من التحام الشعب الفلسطيني في كل مدنه وقراه لأول مرة منذ عقود. نقلت شاشات الفضائيات صورهم وهم يثأرون للنكبة الأولى. كان خروجهم للشوارع بمثابة رد متأخر على تهجير أجدادهم من “البلاد” وسرقة بيوتهم وقتل الكثيرين منهم. لا بد بأنهم تخيلوا للحظة جيرانا محتملين كانوا سيولدون من آباء وأجداد هجِّروا أو قتلوا أثناء النكبة. لا بد بأنهم عانقوا أصدقاء متخيلين لم يسمح الغزاة بولادتهم، لا بد بأنهم غازلوا حبيبات كان يمكن أن يولدن هنا وأن يعشقن هنا وأن يُلمحن عند “حلة المدارس” لو لم تحدث النكبة، ولا بد بأنهم شعروا بأنهم فلسطينيون بما يكفي ليكونوا في صف واحد مع أبناء شعبهم الفلسطيني في غزة والقدس والضفة.

لم يصدق أبناء اللد أكذوبة “التعايش” التي يروجها الغزاة، فالتعايش مع المحتل هو رضوخ العبد لأحلام سيده بالتذويب، وهيهات أن يقبل أبناء اللد بالأسرلة والخضوع. قاوموا الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاما بأسمائهم الفلسطينية، ولهجتهم العامية، وحفلات زواجهم وطقوس موتهم، وبطبخة المقلوبة والحمص الذي يريد الغزاة سرقته ونسبته إليهم، وبالنشيد الوطني المكتوم بين الجدران خوفا من الاعتقال والمحاكمة، وبالعلم المطبوعة ألوانه في سويداء قلوبهم، وبانتمائهم لشعبهم الواحد في كل مكان. قاوموا الاحتلال وإغراءاته وآلة قتله، وعندما دقت ساعة اللحظة الثورية عمَّدوا انتماءهم لهذا الشعب بدم الشهداء. كانت اللد عاصمة لفلسطين التاريخية، وأعادها الشهيد “موسى حسونة” عاصمة لفلسطين من جديد.

انتهت المظاهرات في اللد وبدأ الاحتلال باعتقال أبناء المدينة وغيرها من مدن فلسطين العميقة، ولكن مشهد ارتفاع العلم الفلسطيني فوق مؤسسات حكم الغزاة في اللد لا يزال يصنع تاريخا غير مسبوق في الصراع، وسيبقى كذلك. سيرى العلم كل فلسطيني عندما يمر بجانب هذه المؤسسات، وسيبقى العلم مرفرفا على تلك السارية في وسط المدينة والتي أنزل “لدّاوي” علم الاحتلال عنها ورفع علم فلسطين. أنزل الغزاة العلم عن السارية، ولكنه سيبقى في قلوب فلسطيني اللد، وستبقى صورة الشاب الذي رفعه قصة يتناقلها “اللدادوة” جيلا بعد جيل. وسيبقى إلهام المدينة حافزا للثورة على القتلة في كل حين.

الدحّيّة

الدحّيّة هي دبكة بدوية يعرفها أبناء فلسطين والأردن وربما غيرهم من بدو المنطقة. يردد المغني الشعبي بيتا شعريا من سطرين بلهجة بدوية، ثم يهمهم من ورائه الحضور أصواتا غير مفهومة، ويضربون كفيهم ببعضهما البعض وهما تتجهان نحو مركز الأرض، ويلتصق الشباب تقريبا أثناء تأدية الدبكة بصورة تمنح العرس حميمية توزع على شعوب الأرض كلها.

انتقلت “الدحية” من طقس يمارسه بدو النقب/ بئر السبع إلى أعراس فلسطين في معظم مدن فلسطين العميقة. يغنيها شباب كثيرون، ولكن نجمهم الأكبر أثناء انتفاضة الكرامة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

مسؤولة أممية: ما رأيته في غزة يفوق الوصف

مسؤولة أممية: ما رأيته في غزة يفوق الوصف

جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قالت الممثلة الخاصة لمكتب هيئة الأمم المتحدة للمرأة في فلسطين، ماريس غيموند، الجمعة، إن 9 أشهر من الحرب الإسرائيلية...