فلسطين توحد ولا تفرق

انتصرت المقاومة، وتجسد الانتصار في مظهرين اثنين؛ أولا تمكن الشعب من الصمود ضد عدو شرس، استعمل أسلحته دون مراعاة الحد الأدنى من أخلاقيات الحرب، أما الثاني فيتعلق بكون المعركة الأخيرة نجحت في تحريك ضمائر عشرات الآلاف من الغربيين الذين تظاهروا في مدن عديدة بعد أن صدمتهم مشاهد قتل الأطفال والنساء والمدنيين بأسلوب بارد. تلك اللوحة الرهيبة التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز على غلافها، والتي جمعت صور الأطفال الذين استشهدوا خلال معركة الأخيرة.

جيل جديد ظهر في أمريكا وأوروبا، لم يخضع لعمليات غسل دماغ جماعي مثلما حصل للأجيال السابقة، ولم يكن ضحية الدعاية المضللة للحركة الصهيونية. في هذه اللحظة التي تحرر فيها هؤلاء الشبان من الدعاية الإسرائيلية المضادة، وبدؤوا يستعيدون وعيهم بالقيم الإنسانية، وقرروا مطالبة دولهم بمحاسبة “إسرائيل” واتهامها بارتكاب جرائم حرب، ورفضوا تحميل حركة حماس مسؤولية ما حصل كما ادعت أبواق الدعاية الصهيونية.

في هذه اللحظة بالذات، يلاحظ أن بعض التيارات الفكرية والجماعات السياسية تواصل معركتها ضد حركات الإسلام السياسي بما في ذلك حماس، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الإخوان المسلمين، مستعملة نفس المنطق والخطاب اللذين يعودان إلى أربعينات القرن الماضي. إذ لا يزال هؤلاء يرددون بأنه – رغم كل الذي حدث – فإن ن الحركات الإسلامية بما في ذلك حماس والجهاد “تنظيمات عميلة للصهيونية، ومخادعة للشعوب”.

قد لا يقال ذلك صراحة، لكن مكونات الخطاب تؤدي على هذه النتيجة. إنها مفارقة عجيبة وغريبة لكنها تبقى جزءا لا يتجزأ من الواقع العربي القائم اليوم.

بين الأيديولوجيا والواقع المعيش مسافات ومطبات، وعندما يتجاهل البعض المتغيرات الجارية يفقد القدرة على النظر بطريقة واضحة وسليمة. لا يعني ذلك أن الإسلاميين لا يخطئون ولا يناورون، لكن يفترض في العاقل أن يقر لهم بالحسنة إذا قاموا بفعل جيد، وأن يتقاطع معهم عندما يلتزمون في إحدى اختياراتهم ببعض قضايا الأمة، مثلما هو الشأن حاليا في الصراع ضد المشروع الصهيوني.

أصبح من الضروري ومن الواجب الوطني والقومي الفصل بين مسألتين؛ تتعلق الأولى بالصراع السياسي ضد الحركات الإسلامية، وذلك أمر واقع بحكم وجود خلافات فعلية بينها وبين خصومها حول أكثر من ملف، لكن في الآن نفسه لا يجوز توسيع دائرة الخلاف لتحتل جميع المساحات. فدعم الفلسطينيين في معركتهم الدائرة والمتواصلة، هي معركة وجود يجب أن تكون محل توافق وتعاون وتضامن. هذا ملف يوحد ولا يفرق، ويجمع ولا يشتت. ومن خطا فيه خطوة لدعم الحق يجب أن يشجع على ذلك ويكرم، مهما كانت عقيدته وانتماؤه السياسي؛ لأنه لو حدث العكس لأثبت وجود خلل كبير في العقل السياسي لدى كل من يصر على تحويل الصراع مع الإسلاميين إلى قضية حياة أو موت.

كان يفترض أن تكون تونس مثالا يعكس هذه العقلية البنّاءة، غير أن ما حصل أكد أن فلسطين لم تعد تجمع كما كانت من قبل، وأن العقل السياسي التونسي أصيب بدوره بخلل عميق، فلم يعد يميز بين الثابت والمتحول. الجميع مع فلسطين، لكن عمليًّا تتوجه النوايا والأفعال نحو الساحة الداخلية التونسية من أجل استكمال الصراع والتخلص في أقرب الأوقات من حركة النهضة التي ينظر إليها البعض بمثابة العقبة الكأداء، ليس فقط في وجه الثورة والديمقراطية وإنما يعدها البعض حجر عثرة مع بقية الحركات الإسلامية في طريق تحرير فلسطين.

من حق هؤلاء أن يفكروا بهذا الأسلوب، لكن عليهم ألا يسقطوا من حسابهم أن حماس والجهاد ينحدران أيضا من دائرة الإسلام السياسي، وأنهما جزء محوري وأساسي في المقاومة الفلسطينية، وعلاقتهما جيدة في الغالب مع بقية التنظيمات المسلحة المشاركة بجدية في الدفاع عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين. لهذا يفترض أن يثبت الجميع أنهم أمام القضية الفلسطينية تؤجل بقية المعارك، أو على الأقل تتوفر الإرادة الجماعية لجعل القومي في هذه المسألة يقدم على المحلي، فلا يقسم الفرح والسعادة بانتصار المقاومة، فتضيع بذلك النخوة والشعور بوحدة المصير.

ما ينعش فعلا أن النضال المشترك خلال الأيام الأخيرة جعل الشعب الفلسطيني ينتفض كالجسم الواحد رغم التقطيع الترابي والسياسي. فالفلسطينيون الذين مروا بمختلف أشكال الصراعات الأيديولوجية، وسبق لهم أن رفعوا السلاح ضد بعضهم البعض؛ الثعبان الصهيوني جعلهم يدركون في النهاية أن هدفهم واحد، وأن قضيتهم غير قابلة للتجزئة حتى لو تباينت اجتهاداتهم السياسية واختلفت تقديراتهم حول الوسائل والطرق المؤدية إلى الغايات الاستراتيجية. فالزمن وحده الكفيل لإثبات أي الاختيارات الاستراتيجية أنجع وأسلم وأفضل.

عربي21