غسان كنفاني والانقسام الفلسطيني

صادفت الأسبوع الماضي الذكرى الـ48 لاغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني على يد مجموعة إسرائيلية خاصة، بعد تفجير سيارته في بيروت. ويلقي كاتب هذه السطور نظرة سريعة يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي، ليتعرّف على ما يعتقد عامة الناس أنه مهم بالنسبة لهم ويشغل بالهم، وليس ما يخبرنا به الإعلام الرسمي أنه أولوية لهم، فلفت انتباهي هذا الاهتمام غير العادي من أصدقائي الفلسطينيين بإحياء ذكرى استشهاد كنفاني لهذا العام، حيث لم تخل صفحات التواصل الاجتماعي لمعظمهم من صورة له، أو من تعبير يمجّده ويترحم على أيامه. ولا أتذكر أني رأيت اهتماما مماثلاً يصل إلى هذا الحد في السنوات الأخيرة.
يطلق عالم النفس الاجتماعي، فاميك فولكان، والمنحدر من أصول قبرصية – تركية، أحد أطول الصراعات في العالم اليوم، مصطلح “المجد المختار” (chosen glory)، والذي يجادل فيه بأنه يتم اللجوء في مناطق الصراع إلى استحضار أحداث ورموز مجيدة من الذاكرة التاريخية للمجموعة، حيث يعمل التشبث بها على تقوية هويتهم الجمعية وانتمائهم لماضٍ مشرقٍ مجيد. ويولّد هذا الاستحضار لديهم شعورا أقوى للتعامل مع التحديات التي يفرضها الصراع الذي يعايشونه، فالانتماء لماضٍ جميل مشرق برموزه وأحداثه، يقوّي إيمانهم بأنفسهم بأنهم مجموعة متماسكة قادرة على مجابهة الصعاب.
أتذكر وأنا اتمشّى في شوارع العاصمة الليبية طرابلس أشهراً قليلة بعد سقوط نظام القذافي، كيف كانت صور المجاهد التاريخي ضد الاستعمار الإيطالي عمر المختار تملأ كل شارع و”زنقة” هناك. كان عددها يزيد عن صور من قادوا الثورة ضد العقيد، حتى يخيل للغريب الذي لا يعرف تاريخ ليبيا أن عمر المختار الذي يمتطي حصانه هو من كان يقود الثورة ضد القذافي.
للاستحضار المكثف وغير العادي لغسّان كنفاني في الحالة الفلسطينية اليوم مجموعة من الدلالات، يجب التوقف عندها. يحتاج الفلسطينيون غسان اليوم ليشعروا بانتمائهم لفلسطينيتهم، لهويتهم الجمعية التي يحفزها ذاك الرمز التاريخي المجيد. إنهم يعيشون اليوم حالةً غير مسبوقة من عدم اليقين بشأن مستقبلهم السياسي، متمثلاُ بهجوم ما تسمّى صفقة القرن، وكذا ضم “إسرائيل” أراض فلسطينية واسعة إليها. وعليه، هم في بحثٍ مضنٍ عن يقينٍ آخر في حياتهم وهويتهم الجمعية، فوجدوا ذلك في رمز عرفوه منذ عقود، خرج من بين ظهرانيهم، كتب عنهم وعبر عن آمالهم وآلامهم. إنه غسان كنفاني اليقين في عالم الضياع والشتات الذي يعايشه الفلسطينيون. ولأن غسان كاتبٌ، فقد حاكى فيهم ذاك البعد الروائي الذي يحتاجونه اليوم، والمتمثل فيمن يوصل رسالتهم إلى العالم، بعدما عجزت قواهم الذاتية عن مواجهة الهجمة الإسرائيلية -الترامبية المسعورة. ليس من الواضح لو أن غسان كان على سبيل المثال عالم رياضيات فلسطينيا مقاوما اغتالته “إسرائيل” عام 1972.
ولعل البعد الأهم في استحضار غسان كنفاني، في هذا الوقت وبهذه القوة، حالة الانقسام المرير الذي أرهق الفلسطينيين، وأضاف أبعاداً جديدة لعالم اللايقين حول المستقبل السياسي لقضيتهم، شعبا وأرضا.
واللافت أن غسان لم يكن ينتمي الى حركة فتح، أو إلى الاتجاه الإسلامي، بل جاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الماركسية). ومع ذلك، أحيا ذكراه اليوم الإسلامي والعلماني والقومي والشيوعي، وكل أطياف اللون السياسي الفلسطيني.
لقد أتعب الانقسام الفلسطينيين، حيث أصبحوا في حاجةٍ ماسّةٍ الى استراحة، ولو بسيطة، من قسوة الانقسام، فكان لهم غسان كنفاني الذي لم تختلط عليه فلسطين “الهدف” يوماً، والذي وفر لهم هذه الفسحة الوطنية الوحدوية التي كان لها رؤية، وبوصلة تشير إى اتجاه واحد فقط هو فلسطين. لقد استحضر أحد أصدقائي ناجي العلي، رغم اختلاف تاريخ استشهاده، واضعاً صورته إلى جانب صورة غسان وكتب “هذان قدوتي”. هذه هي الرموز الوطنية الوحدوية التي يتعلق بها الفلسطينيون، ويبحثون عنها اليوم، ليؤكدوا على هويتهم الجمعية، وليتبرّأوا من رجس الانقسام.
لا يقف الأمر عند مفهوم فولكان “المجد المختار”. ولكن لو سأل أحد منا سيغموند فرويد عن تفسيره الاهتمام الفلسطيني غير العادي، لربما أجاب بأنه عالم اللاوعي الذي يتحكّم بجزء من سلوكنا، من دون أن ندري، فحرّك هذا الاهتمام بالذكرى الـ48 لاغتيال كنفاني، لما لهذا الرقم (عام النكبة) من تأثير على هوية الفلسطينيين وتاريخهم، فحرّكت الذكرى هذا العام مشاعر النكبة والضم مجتمعيْن، وكان ردهم معبراً عن الإصرار على الصمود والانتصار في نهاية المطاف.
ومهما يكن الأمر ما بين فولكان وفرويد، من الواضح أن رحلة غسان النضالية لم تتوقف باغتيال جسده عام 1972، بل ما زال اليوم، بذكراه وتاريخه، بين أبناء شعبه، يُشعرهم بطعم الوحدة الوطنية المتخطية للانقسام، ولو لبرهة قصيرة. يبدو أن الشهداء لا يموتون، يستمرون في النضال مع المظلومين من أبناء شعبهم، تفنى أجسادهم، ولكنهم يؤدّون أدوارهم النضالية بأشكال مختلفة.
العربي الجديد
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الاحتلال يشرع بهدم منازل في مخيم نور شمس
طولكرم - المركز الفلسطيني للإعلام شرعت جرافات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الاثنين، بتنفيذ عمليات هدم في حارة المنشية داخل مخيم نور شمس شرقي مدينة...

الهمص: الاحتلال يقتل طفلًا في غزة كل 40 دقيقة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام كشف مدير عام المستشفيات الميدانية بغزة مروان الهمص، عن استشهاد أكثر من 16 ألف طفل في قطاع غزة، منذ بداية حرب الإبادة...

تقرير: التدمير الإسرائيلي للقطاع الزراعي يستهدف إبادة الفلسطينيين واستئصال وجودهم
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، أن الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة المتواصل منذ أكتوبر 2023، استهدف بشكل...

هيئة الأسرى: إهمال طبي متعمد وقمع متواصل للأسرى في عوفر
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام قالت هيئة شؤون الأسرى والمحررين إن إدارة سجن "عوفر" الاحتلالي تواصل اقتحام غرف الأسرى، وقمعهم، تزامنا مع إهمالهم...

الاحتلال هدم 600 منزلاً في جنين ويوسع عمليات تجريف المخيم
جنين - المركز الفلسطيني للإعلام يواصل الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 106 أيام عدوانه على مدينة جنين ومخيمها، مع توسيع عمليات التجريف والتدمير داخل...

حماس: الخطة الإسرائيلية الأمريكية لتوزيع المساعدات تمثل خرقاً للقانون الدولي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أكدت حركة المقاومة الإسلامية حماس، رفضها الشديد تحويل المساعدات إلى أداة ابتزاز سياسي أو إخضاعها لشروط الاحتلال،...

أوتشا: الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات تتناقض مع المبادي الإنسانية
نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام دعت الأمم المتحدة زعماء العالم إلى توفير الغذاء للمدنيين في قطاع غزة، في ظل دخول "الحصار الشامل" الذي تفرضه...