مأزق الوجود الإسرائيلي وتوقعات صهيونية بنهايته

البلد الوحيد في العالم، الذي يعاني من مأزق وجودي استراتيجي، هو “إسرائيل”. لأن أي دولة طبيعية القيام، جاء قيامها نتيجة تطور بنيوي في أسباب النشوء، واتخذ مساراً طبيعيًّا منسجماً مع التطور في واقع مجتمعها، ونضوجه وارتقائه، وصولاً إلى وضع تشكيل الهرم الفوقي لها، مثل هذه الدولة لا ولن تعاني مأزقاً وجوديا. بالطبع، قد تعاني إشكالات اقتصادية، سياسية، اجتماعية، تحولات موضوعية أخرى، لكن المأزق المؤدي إلى إمكانية التلاشي من الوجود منعدم تقريباً بالنسبة لها، ما لم تتم كوارث طبيعية أو حروب إفنائية أو عوامل دراماتيكية أخرى تزيلها، وهذه كلّها نادرة الحدوث تقريباً.
بعد سبعين عاماً من إنشائها القسري المصطنع، تفتقد “إسرائيل” تماماً إلى رعيل المؤسسين الأوائل، الذين ارتبط وجودهم مباشرة بألق المشروع الصهيوني، وبإقناع الجاليات اليهودية في أوروبا ودول العالم أجمع بـ«عدالة» الهجرة إلى فلسطين، وحتمية «نجاح» المشروع الصهيوني، أمثال: اللورد شافتستبري، موسى مونتفيوري، ثيودور هرتزل، حاييم وايزمان، جابوتنسكي، ديفيد بن غوريون، موشيه شاريت، ليوبولد أميري وغيرهم. تلاهم جيل تربّى على أيديهم، ورغم خدماته «الجليلة» لإسرائيل، خاصة في المجال الوجودي والعسكري، إلا أن هؤلاء لا يملكون التراث، الذي امتلكه القادة الأوائل، أمثال: غولدا مائير، شمعون بيريز، اسحق رابين، موشيه دايان، ليفي أشكول، مناحيم بيغن، إسحق شامير، أرييل شارون وغيرهم، هؤلاء لم يمتلكوا بعداً روحيًّا كالذي امتلكه الأوائل.
حاليًّا، تخلو “إسرائيل” من تلك الأسماء الرنّانة الوقع على الأذن الصهيونية الإسرائيلية، فأوضاعهم القيادية هي أقرب إلى العادية منها إلى التاريخية. من هنا، فإن وتائر الهجرة إلى “إسرائيل” في الزمن الحالي، أقل مقارنة بمثيلاتها في زمن أولئك، تماماً كما أن معدلات الهجرة العكسية منها حالياً، أضعاف أضعاف ما كانت عليه في بدايات المشروع. بالطبع عوامل أخرى كثيرة لعبت في ذلك، مثل: اتضاح حقيقة “إسرائيل”، عدوانيتها وحروبها، ارتباطها العضوي المباشر ما قبل تأسيس الدولة، وفي التحضيرات للتأسيس، وفي مرحلة التشكيل، وما بعد ذلك، وصولاً إلى المرحلة الحالية بالاستعمار. التناقضات الإثنية بين اليهود أنفسهم: شرقيين وغربيين وفالاشا، الاختلاف على تعريف هوية من هو اليهودي، التناقضات الطبقية، التفرقة العنصرية بين اليهود أنفسهم، الخلاف بين المؤسستين الخاميتين في “إسرائيل”: الشرقية والغربية، وغيرها الكثير. كل الأسباب السابقة تساهم بفعالية في تسارع وتعاظم المأزق الوجودي الاستراتيجي الإسرائيلي بشكل عام.
من الأسباب الأخرى للمأزق الوجودي الإسرائيلي، فشل الحركة الصهيونية في بناء عناصر الدولة الروحية لوجودها، كالفشل في بناء مفاهيم: الشعب، المجتمع الموحد، القومية، الأمة، وكل عناصر التوحيد الأخرى. بالفعل، فإن “إسرائيل” هي جيش له دولة. أما سياسات “إسرائيل” ونهجها العدواني فاستولد مزيداً من الظواهر الشبيهة: الطابع العنفي، اعتماد القوة، ومبدأ: ما لا يجري تحقيقة بالقوة، يمكن تحقيقه بالمزيد من القوة، العداء لكل من هو غير يهودي، الإرهاب، وإسكات كل الأصوات المعارضة أو المنتقدة لهذا المبدأ، بكافة الأساليب والوسائل. الأطماع في الأرض العربية المجاورة، وعدم ترسيم حدود الدولة إلا بعد تحقيق الجزء الثاني من المشروع، وهو إنشاء دولة “إسرائيل” التوراتية الكبرى كما يرسمها الحاخامات. الفوقية والاستعلاء العنصري في النظرة لغير اليهود، خاصة العرب. كل هذا يقود إلى مزيد من الانعزال الفعلي عن العالم (وإن لم نشهد حقيقته حالياً، فذلك بفضل علاقاتها مع الدول الاستعمارية الغربية، والولايات المتحدة بشكل خاص، وبفضل كسر قواعده، من خلال فك الحصار الرسمي العربي (المفترض) على “إسرائيل” والتطوير التدريجي في إقامة كافة أشكال العلاقات معها، إما طوعيا أو بأوامر خارجية (أمريكية).
من أسباب المأزق الوجودي الإسرائيلي نفسه، أن صفة الاحتلال أصبحت صفة دائمة للوجود الإسرائيلي، ولذلك ترى من الطبيعي أن ترفض هذه الدولة، كل قرارات الهيئات الشرعية الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، والحق بالنسبة لها هو الذي تراه مناسباً لها، وليس ما يراه المجتمع الدولي بكامله وهيئاته المشروعة. “إسرائيل” رغم ادعائها بتبني العلمانية، إلا أنها بعيدة عنها بعد السماء عن الأرض، فهي دولة ذات طابع ديني مستشر في مؤسساتها العسكرية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، القضائية كافة، (ولديها مبدأ – قانون أساس- ينص على أن المشكلة القضائية التي لا توجد لها حلول في القانون الوضعي، يجري حلّها وفقاً للمبادئ التوراتية، التي تشكل دوماً الحل الروحي اليهودي لشعب إسرائيل). لا يوجد مفهوم/ مفاهيم إنسانية في “إسرائيل” (ونتحدى من يورد نصّاً/ نصوصاً في القانون الوضعي الإسرائيلي، جرى حلّ مطلق قضية إنسانية بموجبه، مثلاً، قضايا مثل: إطلاق سراح أسير فلسطيني مريض، الامتناع عن هدم بيت فلسطيني، إلخ، منذ تشكيل “إسرائيل” حتى اللحظة) كلّ ما سبق يستولد الطابع اللاعقلاني في بنية الدولة، ما يتنافى مع أي سلوك إیجابي تجاه الحیاة البشریة بشكل عام.
كل ما سيق ساهم في تشكيل طابع من نمط خاص يسمى بـ«الطابع السيكولوجي الإسرائيلي»، الميّال بطبعه إلى العنف اللامحدود مع غير اليهودي. نعم، جملة المسلكيات الإسرائيلية تحتّم بالضرورة على “إسرائيل” الابتعاد عن كل الحضارات قديمها وحديثها، ف”إسرائيل” لا تعترف إلا بما تسميه «إرث الحضارة اليهودية»، التراث اليهودي، بالتالي ف”إسرائيل” تحمل فكراً انسحابياً من الحضارات. إن الزمكانیة بالنسبة للوجود الاسرائیلي، أضفت طابعاً متخلخلاً في الزمان والمكان المحددين بالنسبة ل”إسرائيل”، فالإسرائيليون التاركون لدولتهم مملوؤن بمقاومة داخلية لا ترید البقاء في هذا البلد، الذي يشعرون بأنهم بوجودهم فيه، فھم عرضة للاستدعاء للحرب في كلّ لحظة، وفقد الحياة بالنسبة لكل واحد منهم قائم في كلّ يوم.
للعلم، كثير من الإسرائيليين يتوقعون نهاية دولتهم؟ ووفقاً للإحصائيات فهؤلاء يتزايدون باستمرار. في كتابه «الحرب على غزة ونهاية إسرائيل» يتوقع نعوم تشومسكي نهاية إسرائيل عام 2030، وتحدث عن نهايتها في محاضرة ألقاها في لندن عام 2017. أيضاً، كشف المحامي الأمريكي فرانكلين لامب، أن وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي إيه) أعدت دراسة حول مستقبل المؤسسة الإسرائيلية، توقعت فيها، سقوطها خلال عشرين سنة مقبلة، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، ونزوح ما يقرب من مليوني إسرائيلي إلى الولايات المتحدة في غضون خمسة عشر عاماً مقبلة. وبناء على استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة «هآرتس» 12 مايو 2018، أكدت فيه أن 35% من الشباب في “إسرائيل”، لا يرغبون العيش فيها، ويريدون الهجرة منها، إذا ما أتاحت لهم الظروف ذلك، نظراً لأنهم يتوقعون مستقبلاً كئيباً ينتظر دولتهم. ثم أظهر استطلاع رأي آخر نشرته النسخة الإلكترونية للصحيفة ذاتها أواخر عام 2018: إن 37% من الإسرائيليين يريدون الهجرة من “إسرائيل” لأسباب اقتصادية، ولانتهاء «حلم الصهيوني» لديهم. كما يرى البروفيسور أمنون روبنشتاين، الذي شغل في الماضي منصبي وزير القضاء والتعليم في حكومتي رابين وباراك، أن المؤسسة الإسرائيلية لا يمكنها البقاء مطلقاً بسبب نوعين من التهديد: خارجي يمثله فشل المؤسسة الإسرائيلية في ردع الفلسطينيين والشعوب العربية عن مواصلة تهديدها والتربص بها، والتهديد الداخلي المتمثل في الفساد، وتآكل ما سماه «منظومة القيم الصهيونية». أيضاً، كان أبراهام تيروش الذي شغل منصب سكرتير ثان في حكومة مناحم بيغن، قد أوضح مظهراً من مظاهر انهيار الفكرة الصهيونية، المتمثل في قرار الوكالة اليهودية بالتوقف عن محاولة إقناع اليهود في أرجاء العالم بالهجرة إلى “إسرائيل”، معتبراً أن هذا يدلل على فشل الحركة الصهيونية في المحافظة على قوة الدفع الخاصة بأفكارها، التي تعتبر الهجرة اليهودية على رأسها. وأشار تيروش، مستنداً إلى نتائج دراسة أجريت في أوساط اليهود الأمريكيين ودللت على أن 50% من الشباب اليهودي الأمريكي لا يهمهم إذا محيت المؤسسة الإسرائيلية عن الوجود. كذلك يصب في السياق نفسه، تصريح قديم لمناحيم بيغن، قاله خلال العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، كان ذكر فيه: أن إسرائيل لن تعيش طويلاً، مستطرداً القول، بأن الكتب القديمة تؤكد ذلك. الصحافي جدعون ليفي سبق أن قال في صحيفة «هآرتس»، «بأن لا أحد عنده جواب عما سيكون وجه الدولة بعد عشرين عاما، بل يوجد من يشككون في مجرد وجودها حتى ذلك الحين، وهذا سؤال لا يثار بشأن أي دولة أخرى. من جهته قال الشاعر ناتان زاخ أحد أبرز الوجوه الأدبية في الكيان الصهيوني: «إن الصهيونية فشلت في تحقيق مرادها، وإن دولة «الحليب والعسل التي وعدت بها تحولت إلى كومة شرور وفساد». هنري كيسنجر توقع منذ سنوات في تصريح شهير له، نهاية “إسرائيل”، حينها، ثارت ضجة الصهيونية والتيار الصهيو مسيحي في أمريكا عليه.. نتنياهو صرّح منذ عام، بأنه يطمح أن تحتفل “إسرائيل” بمئويتها، وألا تكرر مصير مملكة حشمونئيم التي اندثرت بعد 80 عاماً من وجودها.
صحيفة القدس العربي اللندنية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

المطبخ العالمي يوقف الطهي في القطاع بعد نفاد الإمدادات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلن المطبخ العالمي في قطاع غزة عن توقفه الكامل عن العمل ابتداءً من يوم غد الخميس 8 مايو/أيار 2025، نتيجة نفاد مخزونه...

ألبانيز: الجميع مسؤول أمام القانون الدولي لصمته على المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين
تونس – المركز الفلسطيني للإعلام قالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، إن...

أبو سلمية: نفاضل بين الجرحى والمرضى والمنظومة الصحية شبه منهارة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام قال مدير مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، محمد أبو سلمية، إن الأطباء في المستشفى يفاضلون بين المرضى والجرحى. وأضاف أبو...

القوات اليمنية: نفذنا عمليتين استهدفتا مطار رامون ردًا على جرائم الاحتلال
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت القوات المسلحة اليمنية، مساء اليوم الأربعاء، تنفيذ سلاح الجو المسير عمليتين عسكريتين استهدفتا مطار رامون في...

حماس: عملية جنين أبلغ رد على محاولات الاحتلال إخماد المقاومة
جنين – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، مساء اليوم الأربعاء، إن عملية إطلاق النار البطولية التي وقعت عند حاجز الريحان...

إصابة جندي إسرائيلي بعملية دهس في الخليل واستشهاد المنفذ
الخليل – المركز الفلسطيني للإعلام استشهد، يوم الأربعاء، منفذ عملية الدهس قرب حاجز "سدة الفحص" جنوبي الخليل جنوبي الضفة الغربية المحتلة، والتي أسفرت...

قرار أمريكي بإغلاق مكتب الشؤون الفلسطينية في القدس
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام قرر السفير الامريكي في الكيان "مايك هاكبي" وفي خطوة غير مسبوقة إغلاق مكتب الشئون الفلسطينية في القدس ودمجه...