الخميس 27/يونيو/2024

في تحولات المشروع التحرّري الفلسطيني

كمال عبد اللطيف

يبدو أن مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو (1993)، بما لها وما عليها، وبما صنعت من أوهام، وما ترتَّب عنها من نتائج، في موضوع المشروع التحرّري الفلسطيني، يُعدّ، بمعايير التاريخ، زمناً مناسباً لتقييم الاتفاقية، في كثير من أبعادها وآثارها، فقد منحت الاتفاقية لمسار النضال الفلسطيني من أجل تحرير فلسطين منعطفاً جديداً، رَضِي فيه موقّعوها بجملةٍ من المبادئ والإجراءات العامة، المتعلقة بما أصبح يعرف، في أدبيّاتها وبياناتها، بترتيبات الحكم الذاتي المرحلي والانتقالي.

نعرف اليوم بعد صدور أعمال عديدة عن الاتفاقية، وسياقاتها السياسية والتاريخية، أنه كانت للأطراف التي وقَّعتها حسابات وتقديرات مختلفة ومتناقضة، وأن للاتفاقية، في الصيغة التي أنجزت بها، سياقا محدَّدا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إضافة إلى مبادئ عامة موضحة جوانب من خيارات أطرافها. كما أن إعلانات التحفظ والرفض التي عبرت عنها قوى سياسية أخرى، فلسطينية وعربية، تعرف جيداً حدود ومحدودية مواقفها من خيارات السلام وبناء الثقة مع دولة الاحتلال. 

في المستطاع التأكيد اليوم أن روح الاتفاق، المتمثِّل في تجزيء القضية وتقسيمها، سهَّل عملية السطو على هدفها المركزي، تحرير الأرض وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، فقد غيَّبت الاتفاقية الأفق التحرّري، واستحضرت قضايا فرعية سَمَّتْهَا القضايا المرحلية والانتقالية، لتؤجّل النظر فيما أطلقت عليه قضايا الحل النهائي، المتمثِّلة في الاستقلال والتحرّر الوطنيين، الأمر الذي جعل منظمة التحرير تنخرط في تحويل تاريخ النضال والمقاومة الفلسطينية، من قضية مواجهة احتلال استئصالي إلى مسائل في الحكم الذاتي، وأخرى في التدابير الأولية الانتقالية، مع عنايةٍ كبيرة بموضوع بناء الثقة بين “إسرائيل” والفلسطينيين الذين يعاني ما تبقَّى منهم في فلسطين مظاهر كثيرة من القهر والعدوان.

كلما حلَّت الذكرى السنوية لمواعيد الهزائم والاتفاقيات، نقف على حقيقةٍ مرعبة، حيث لم يتمكَّن الفلسطينيون لا من العودة إلى وطنهم، ولا نيل استقلالهم وتأسيس دولتهم. نتجرَّع مراراتٍ عديدةً في أزمنةٍ متقاربة، الأمر الذي يخلِّف في العقل، وفي الوجدان، وفي التاريخ، ندوباً ووقائع توسع منعطفات التحوّل في القضية، وتصنع لها مداراتٍ جديدةً لم تكن في الحسبان.

تتغيّر الشعارات، وتستبدل مفردة المقاومة بمفردة التسوية ثم السلام، ويتم التمهيد لعمليات الاستبدال بنشر أجواء بناء الثقة بين المحتل ومن اغتصبت منه الأرض والتاريخ، فقد مَرَّ اليوم ربع قرن على اتفاقية أوسلو، وأربعة عقود على البدايات المعلنة لمشروع السلام العربي الإسرائيلي في كامب ديفيد، لنجد أنفسنا أمام نتيجةٍ مؤكّدةٍ وواضحةٍ، توسيع مسلسل التطبيع مع “إسرائيل” وترسيمه، وعودة إلى شعارات مشروع الشرق الجديد، باعتباره المشروع الذي يُوَطِّن الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، ويُنهي المشروع الوطني الفلسطيني. 
لم يتم الاعتراف بإسرائيل في كامب ديفيد ولا في أوسلو ولا في مدريد، بل تَمَّ ذلك يوم حصول هزيمة 1967، حيث أَلْحَقَت الهزيمة بالقضية وشعاراتها أشكالاً من الخلل التاريخي الذي أصبح يصعب تداركه في ضوء الملابسات التي واكبت السياقات التي توالت بعد ذلك، في الربع الأخير من القرن العشرين. ولعلنا نعرف اليوم، مما أصبح متداولاً من التاريخ السرّي للقضية، والتاريخ السرّي لأشكال التضامن العربي المسانِد بعض شعاراتها، أن للاتفاقيات المبرمة بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية سياقا عاما من التراجع، يُفضي، في وجهته العامة، إلى جوانب من مآلاتها، حيث تنعكس أحوال الوضع العربي والإقليمي على القضية، وعلى صور الانقسام بين القوى السياسية الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، وحيث يجري العمل على تحويل القضية منذ سنوات إلى قضية إجراءات حكم ذاتي انتقالي، مرهون بحلول وخيارات إسرائيلية مكشوفة.

اختيار السلام مشروع في التاريخ، لكن الطرق المؤدية إليه ليست دائماً متيسّرة، وبلورة اتفاقيات مرحلية وتمهيدية لبلوغه تُعَدُّ أمراً تاريخياً شريطة العمل بمقتضيات الأصل في الصراع، وعدم السقوط في حبائل وشعارات ما تفرضه موازين قوة ظالمة ومغتصِبة لأرض وشعب وتاريخ. 

هل يمكن أن نعتبر ما حصل منذ الاتفاق من أحداث، في المشرق العربي وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، شكَّل، بصورة أو بأخرى، نوعاً من التجاوُز لمبادئ الاتفاق، وركَّب وضعاً جديداً ومعضلاتٍ جديدة؟ فقد توسّعت إسرائيل في بناء المستوطنات، وأصدرت قانون يهودية الدولة. وقبل ذلك، أعلن الرئيس الأميركي، ترمب، نقل سفارة بلاده إلى القدس، باعتبارها عاصمة إسرائيل، ما يكشف أن الأحداث التي تواصلت زمن تنفيذ الاتفاق تروم تغييب جوهر المشروع الفلسطيني، حيث تواصل إسرائيل “بناء الثقة” مع الفلسطينيين بمزيدٍ من مصادرة أراضيهم، وهدم بيوتهم وتشتيت تجمّعاتهم، الأمر الذي يضعنا أمام تزايد حجم التحدّيات التي تواجههم اليوم.

لقد أصبحنا أمام مفترق طرق جديد، نعاين فيه، بجلاءٍ، تحولاتٍ كبرى في المشروع الوطني الفلسطيني. كما نعاين، بجلاء أكبر، استمرار العدوان الإسرائيلي على شعبٍ أعزل داخل معازل في وطنه.

المصدر: العربي الجديد

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

دوجاريك: الأمم المتحدة لم تنسحب من غزة

دوجاريك: الأمم المتحدة لم تنسحب من غزة

نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام أكدت الأمم المتحدة، الأربعاء، أن العقبات التي تعترض توزيع المساعدات الإنسانية في غزة لا تزال مستمرة، ولكنها خلافا...