الجمعة 12/يوليو/2024

تطورات صفقة القرن ومساراتها المحتملة (تقدير استراتيجي)

تطورات صفقة القرن ومساراتها المحتملة (تقدير استراتيجي)

ملخص:

بالرغم من عدم وجود نصوص رسمية حول ما عرف بـ”صفقة القرن”، إلا أن التسريبات الأمريكية والإسرائيلية والعربية حولها تحمل مضامين خطيرة؛ تجعلها أقرب إلى “تصفية” القضية الفلسطينية، منها إلى تسويتها.

تواجه “الصفقة” بعد نحو عام من التسريبات حالةً من التعثُّر، في ضوء الإجماع الفلسطيني على رفض “الصفقة”، وحالة التراجع و”البرود” العربي تجاهها، وحالة الارتباك في أداء السياسة الخارجية الأمريكية. غير أن ذلك لا ينبغي أن يُقلل من خطورة المحاولات الأمريكية الجارية لحسم بعض قضايا الحل النهائي، بما يخدم التصور الإسرائيلي، من خلال فرض الحقائق على الأرض، وخصوصاً القدس واللاجئين؛ كما لا ينبغي أن يقلّل من خطورة حرف بوصلة الصراع، من خلال تشكيل تحالف عربي إسرائيلي، بما يعزز الصراع الطائفي ويقطع الطريق على قوى التغيير والإصلاح في المنطقة.

وتبدو فرص نجاح الصفقة ضعيفة في الظروف الراهنة، بينما يبقى سيناريو فشل الصفقة أمراً مرجحاً. وفي الوقت نفسه، فإن ثمة سيناريو ثالثًا يجب أن يبقى “تحت المراقبة”؛ وهو محاولة تمرير الصفقة بعد “تأهيل” الحالة الفلسطينية والعربية لقبولها، بـ”تلميع” طرف فلسطيني ملتزم بمسار التسوية، باعتباره صامداً ومحافظاً على الحقوق الفلسطينية، ثم تحقيقه لتسوية يبدو أنه أنجز فيها مكاسب مهمة، بينما يتم تمرير قضايا خطيرة مرتبطة بالقدس واللاجئين والسيادة والاستيطان، باعتبارها تضحيات ضرورية لإدارة المرحلة.

مقدمة:
يبدو أن مشروع “صفقة القرن” الذي يحاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump وفريقه تسويقه لتسوية سلمية نهائية متعلقة بالقضية الفلسطينية، يعاني من التعثر بعد نحو عام من الحديث والتسريبات حوله.

قدمت الإدارة الأمريكية مشروع التسوية هذا بشكل يحمل مدلولاً “تجارياً تسويقياً تشويقياً”؛ ربما بشكل يتناسب مع عقلية تاجر العقارات التي يحملها ترامب. لكنه في كل الأحوال لم يكن مصطلحاً جديداً، إذ سبق استخدامه قبل عدة سنوات. غير أن الوجه البئيس للمصطلح هو أنه تعامل مع أهم وأخطر قضية صراع عالمية باعتبارها مجرد “صفقة”، وحاول نزع حساسية ومكانة وحيوية وقدسية فلسطين، ليتعامل معها كسلعة، وليس كقضية حرية وعدل وكرامة. كما أن “الصفقة” في جوهر أفكارها المطروحة هي عملية “تصفية” وليس “تسوية” للقضية الفلسطينية.

يحاول هذا التقرير مناقشة كيف يبدو مشهد “الصفقة” بعد نحو عام؟ وما هي مساراتها المحتملة؟

أولاً: معالم الصفقة:
يظهر أن حالة الضعف والتردّي الشديد في البيئة العربية والإسلامية، وحالة الضَّعف والانقسام الفلسطيني، قد شجعت الإدارة الأمريكية بخلفياتها اليمينية والشعبوية، على محاولة تقديم مشروع تسوية يتناسب مع المعايير الإسرائيلية؛ ومحاولة قطف ثمار حالة العلو التي يشهدها المشروع الصهيوني، في مقابل حالة التردي التي تشهدها الأمة.

من ناحية ثانية، فإن ما تسرّب من الصفقة التي لم تُنشر رسمياً حتى الآن، هو أقرب إلى حزمة أفكار إسرائيلية أعدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu، مقدَّمةً في ثوب أمريكي، كما أشار إلى ذلك شاؤول أرئيلي Shaul Arieli في مقال له في جريدة هآرتس في تموز/ يوليو 2018. ولعل بعضاً من أفكارها المسربة يمكن إرجاعه إلى ما طرحه في سنة 2010 جيورا آيلاند Giora Eiland مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق. ولأنها “تسريبات” فليس هناك ما يمكن إثباته أو نفيه من مضامينها.

وبالرغم من أنه ليس بين أيدينا نصٌّ رسمي يُرجع إليه، إلا أننا من مجمل متابعاتنا للتسريبات التي نُشرت عن طريق الأمريكان أو المسؤولين العرب والإسرائيليين أو بعض الشخصيات والمؤسسات القريبة من صُنَّاع القرار، يمكن أن نخرج بخلاصة تشير إلى أن أبرز معالم هذه “الصفقة” تتلخص في:

1. حكم ذاتي للفلسطينيين تحت السيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة (يمكن أن يُسمى شكلياً دولة)، وبالتالي إسقاط مشروع الدولتين (وفق الحد الأدنى الفلسطيني)، وإغلاق الطريق أمام تحوّل السلطة الفلسطينية إلى دولة ذات سيادة؛ مع الإعلان عن “جزرة” هي إمكانية تطوير الحكم الذاتي بناءً على “حُسن سلوك” الفلسطينيين!!

2. إخراج قضايا الحل النهائي من التسوية السلمية، وحسمها لمصلحة المعايير الإسرائيلية، وأبرزها:

‌أ. بقاء القدس (بما في ذلك البلدة القديمة التي تحوي المسجد الأقصى) تحت السيادة الإسرائيلية؛ واصطناع “قدس جديدة” للفلسطينيين مركزها أبو ديس؛ وانسحاب إسرائيلي من بعض أحياء القدس.

‌ب. لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، ويتم حلّ قضيتهم من خلال التوطين والتعويض.

‌ج. بقاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية (نحو 190 مستوطنة)، وشرعنة البؤر الاستيطانية القائمة (نحو 100).

‌د. لا سيادة “للدولة الفلسطينية” المقترحة (الحكم الذاتي/ الكانتون) على الأرض، ولا سيطرة له على الحدود، ولا على مجاله الجوي، ولا على المياه.

‌هـ. لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي إلى حدود ما قبل حرب حزيران/ يونيو 1967، وستبقى السيادة الإسرائيلية على المستوطنات وما وراء الجدار العنصري العازل (نحو 12% من الضفة)؛ مع طروحات أن تبقى السيادة على جميع مناطق ج في الضفة أي 60% من مساحتها الكلية (تحت النقاش).

‌و. لن يكون للفلسطينيين جيش عسكري، وإنما قوة شرطة تحافظ على الأمن الداخلي.

3. اعتراف العالم أجمع بـ”إسرائيل” دولة قومية لـ”لشعب اليهودي”، وبـ”الكيان الفلسطيني” دولة قومية للشعب الفلسطيني.

4. التركيز على “السلام الاقتصادي”، ومحاولة تقديم الصفقة في صورة عملية تنموية اقتصادية للفلسطينيين وللمنطقة.

5. التطبيع قبل التسوية: من خلال إيجاد موافقات من الدول العربية الرئيسة المعنية بالشأن الفلسطيني (خصوصاً: مصر، والسعودية، والأردن) على الصفقة، بحيث يحاصَر الفلسطينيّون ويُعزلون، وتُنزع ورقة القوة العربية من أيديهم، باتجاه فرض التسوية عليهم.

6. حرف بوصلة الصراع؛ بالسعي لإنشاء تحالف إقليمي عربي – إسرائيلي ضدّ إيران من جهة؛ ويستهدف من جهة أخرى تيارات “الإسلام السياسي”، وحركات وقوى التغيير والثورة في المنطقة، بما يضمن استقرار الأنظمة السياسية المتوافقة مع السياسة الأمريكية في المنطقة.

من ناحية أخرى، هناك نقاط ما تزال محلَّ نقاش مثل:

– المساحة التي ستُسلم للفلسطينيين من الضفة الغربية، ووفق أي مراحل وشروط؟!

– والممر بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وطبيعته، وإدارته.

– وما إذا كان ستتم عملية “تبادل أراضٍ” لتعويض الفلسطينيين عن الأراضي التي تقع عليها المستوطنات الإسرائيلية، أو لا ترغب قوات الاحتلال بالانسحاب منها. فهل سيكون التعويض من أرض فلسطين 1948، أو من أرض سيناء (ما “أُشيع” عن إمكانية اقتطاع 720 كم2 من سيناء بين رفح والعريش، بحيث تعوَّض مصر عنها بمساحة مماثلة من النقب في منطقة أم الفيران؛ وهو ما نفاه الجانب المصري)؛ أم أنه لن يكون هناك تعويض أساساً.

– وكيف سيتطور الشكل الانتقالي للكيان الفلسطيني الذي سيسمى “دولة”.

– وما إذا كان هذا الكيان، سيُضم إلى كونفدرالية مع الأردن أم لا؟!

– وكيف سيتم إنهاء “حكم حماس” في قطاع غزة؟!

– وما هي الأحياء التي يمكن أن تُضم إلى أبو ديس لتشكل عاصمة فلسطين (مثلاً الأحياء التالية أو بعضها: شعفاط، وجبل المكبر، والعيسوية، وبيت حنينا، ورأس خميس، وكفر عقب).

وأياً تكن الصورة التي يروَّج لها، فنحن في النهاية وباختصار أمام عملية “تصفية” للقضية الفلسطينية، وأمام قيام “دولة إسرائيلية” بنظامين أحدهما خاص باليهود يستمتع بالمزايا كافة، وآخر عنصري “أبارتهايد” خاص بالفلسطينيين.

ثانياً: إدارة الصفقة:
يلاحظ أن الإدارة الأمريكية سعت إلى إدارة “الصفقة” بشكل مختلف عن النمط التقليدي السابق لطرح مبادرات التسوية. ومن أبرز معالم إدارتها للصفقة:

1. إن روح الصفقة مبنية على فرض “الإملاءات” بدلاً من المفاوضات وهي أقرب إلى محاولة فرض مسار من طرف واحد، أكثر منها وصولاً لاتفاق بين طرفين. وبالتالي فهي تُفقد كلمة “التسوية” معناها ومضمونها. ولذلك تسعى لحسم عدد من الجوانب الجوهرية على الأرض، من خلال وضع الثقل الأمريكي باتجاه محدد، ليدفع بعد ذلك الأطراف الدولية والعربية للقبول بالأمر الواقع، وجعل النزاع عليها أمراً من الماضي. وهو ما يفعله الطرف الأمريكي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” ونقل سفارته إليها؛ وهو ما يقوم به هذه الأيام من محاولة لإغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين، كما ظهر في سعيه لإغلاق الأونروا UNRWA، وفي ضغطه على الدول العربية لتوطين اللاجئين، وإلغاء صفة اللاجئ عنهم. وفي هذا السياق يأتي ما ذكرته مجلة الفورين بوليسي Foreign Policy أن جاريد كوشنير Jared Kushner حاول الضغط على الأردن لإلغاء صفة اللاجئ عن مليوني فلسطيني يحملون الجوازات الأردنية.

2. عدم الإعلان عن الصفقة رسمياً، والمحافظة على قدر من الغموض والتأخير والتسريبات، لمتابعة الضغوط، وتحقيق قدر من التهيئة النفسية، ومحاولة إيجاد بيئات قبول مناسبة.

3. السعي لممارسة ضغوط قاسية على الطرف الفلسطيني من خلال محاولة عزله، ونزع ورقة القوة العربية من يده، واستخدامها للضغط عليه.

4. محاولة الحصول على قبول الأطراف على الخطوط الرئيسة للصفقة، قبل الإعلان الرسمي عنها؛ سعياً لقطع الطريق عن الاحتمال المبكر لفشلها وسقوطها.

5. إعطاء “الصفقة” نوعاً من المرونة، بحيث تبدأ من السقف الإسرائيلي الأعلى، ويتم “التراجع” أو التخفيف باتجاه الطرف الفلسطيني باعتبارها “تنازلات”، دون أن يصل ذلك إلى الحد الأدنى الذي تطرحه قيادة المنظمة والسلطة.

6. خلط الأوراق، من خلال التركيز على “السلام الاقتصادي”، أو مدخل “غزة أولاً” بحجة تخفيف معاناة القطاع، والاستفادة من ذلك لإضعاف حماس وخط المقاومة، وكذلك للضغط على عباس، للإيحاء بإمكانية تجاوزه إذا لم يتجاوب مع الصفقة.

ثالثاً: الوضع الراهن للصفقة:
يظهر أن “الصفقة” بعد نحو عام من الحديث عنها تُعاني من التعثّر. ومن الواضح أن حالة الحماس الأمريكية للصفقة التي ظهرت مطلع سنة 2018، مترافقة مع حماسة عربية خليجية قد تراجعت بالتدريج.

1. الموقف الأمريكي: كان الطرف الأمريكي يتحدث في كانون الآخِر/ يناير 2018 بثقة وتعالٍ عن فرض الصفقة بغض النظر عن موافقة الفلسطينيين أو رفضهم؛ وعن بيئة عربية تسعى لسلام إقليمي تكون “إسرائيل” شريكة فيه، في مواجهة إيران ومواجهة “التطرف الإسلامي”. غير أن الأمريكان قرروا تأجيل الإعلان عن الصفقة أكثر من مرة هذا العام… إلى آذار/ مارس… ثمّ إلى أيار/ مايو… ثمّ إلى أيلول/ سبتمبر… ثمّ إلى تشرين الآخِر/ نوفمبر بعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي. وقد تشهد الصفقة تأجيلاً آخر… مع تزايد المصاعب الحقيقية التي تواجهها… ومع تَعَرُّف فريق المفاوضات الأمريكي النّزق والجاهل بحقائق المنطقة، والمتبني للرؤية الإسرائيلية، على مزيد من الحقائق على الأرض. وقد ظهرت تصريحات لكوشنير وجيسون جرينبلات Jason Greenblatt خصوصاً منذ حزيران/ يونيو 2018 تعبّر عن حالة إحباط من عدم تجاوب الطرف الفلسطيني أو من برود التفاعل العربي. كما ظهرت تصريحات جديدة لترامب تتحدث عن إدر

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات