الجمعة 02/مايو/2025

التسريبات الإعلامية الإسرائيلية وصناعة الإحباط الجماهيري

حيدر المصدر

لا يتناول مقالي هذا التسريبات الإعلامية وعلاقتها بالتطورات السياسية، بقدر ما يتطرق لأثرها على جمهور قطاع غزة. فالمنظومة الإعلامية للكيان دعائية بامتياز، وتنشط بمهنية واحترافية عالية، خالية من التلقائية أو المراهقة. 

والإعلاميون هناك أشبه بمصانع صياغة الأفكار، ويجيدون بمهارة متعاظمة عملية التلاعب بالمعلومات، وتوظيفها بالشكل الذي يخدم المؤسستين العسكرية والسياسية. وتقف على رأس هذه المهارات، حرفة صناعة “الإحباط”، واستنهاض اليأس في النفوس، كي تدفع بالفئة المستهدفة نحو التمرد عن مألوف تفكيرها وقناعاتها.

التسريبات التي تتعلق بهدنة إنسانية، أو حل دولي، أو اتفاق وقف إطلاق نار، (سمه ما شئت)، هي مثال قائم للكيفية التي بموجبها يُصنع (الإحباط). 

ولنعد للوراء كخطوة تسبق الاستيعاب الكامل للفكرة، ونسأل أنفسنا؟ ما هي الرغبات الكامنة في نفس المواطن الفلسطيني؟ وما الذي يرغب في تحققه عاجلاً غير أجل؟  وما التي تسبق في الأهمية غيرها؟ بكل تلقائية سيجيب أحدهم، وبشكل فوري لا إرادي: تحسن الأوضاع الاقتصادية، انتظام الكهرباء، سحق البطالة، السفر إلى الخارج…الخ. هذه الإجابة تعكس لحقيقة مقلقة؛ فما وقر في العقل صدقه العمل، والمطالب الإنسانية باتت تسبق في أهميتها وأولويتها التطلعات السياسية. غاب التمعن والتفكر وحضر سلم “ماسلو” للحاجات…هكذا يريدون.

وفي سياق موضوعنا، وبعيداً عن التباين الذي سينشأ عن الإجابة، يعي صانع الإحباط في “إسرائيل” هذه الاحتياجات، فهي تحصلت نتيجة رقابة ومتابعة مكثفة للتفاعلات الاجتماعية داخل القطاع، وازدياد حدة التعبير عنها عبر مواقع الإعلام الاجتماعي. وكنتيجة، بدأ في استغلال ما عبرت عنه النفس من حاجات، بأسلوب علمي، متفق على خطورته، يسمى “استغلال الأماني”. وعلى الرغم من اتساع رقعة وتنوع استخدامه، إلا أنه في مثالنا القائم لا يتجاوز توظيف واستغلال مكامن النفس، من أجل الدفع بالفرد نحو سلوك يلبيها ويشبعها، وإن بدا تحركاً غير عقلاني أو واقعي.

ولأن المساحة محدودة، لا يسعنا الإشارة سوى إلى الخلاصات النهائية المفترضة. فــ”إسرائيل” ترغب في أن يتعاطى مواطني غزة مع أفكار وتوجهات تطرحها، خاصة وأنها تلامس أماني تعي مسبقاً رغبتهم الشديدة في أن يروها واقعاً ماثلاً على الأرض. وللسخرية، تطرح إسرائيل هذه الأمنية (اتفاق إنساني)، كي تمنح معتنقها إحساساً بالأمل والسعادة، لانسجامها مع أمانيه؛ إلا أن خطورتها (التسريب الإخباري) يتجسد في محاولتها تحفيز فعل يُعبر عن هذا الانسجام، ليندفع الفرد نحو تحقيقه، على قاعدة اقتران الأمنية بالفعل، وإلا أصبحت مجرد حلم غير مقدر لها الوجود. فالجمهور يفضل التصديق بحقيقة شيء لرغبته الملحة أن يتحول لواقع، كما يفضل الاستماع لشيء لتوافقه مع أمانيه (انتقائية). 

هنا تحديداً تظهر مهارة الدعائي “الإسرائيلي”، حيث يعمد إلى منح الجمهور ما يرغب في سماعه، مع تقديم معطيات مدروسة بأسلوب الترجيح والاحتمال لا ديباجة المؤكد . ولكن ماذا عن الأثر؟ ماذا لو لم تتحقق الأمنية، أو أن أمراً يعيق انبعاثها؟ 

هنا، نلج مرحلة أخرى، هي جزء من عملية متكاملة، شبه متوقع نتائجها لدى الفاعل الدعائي. فعند تعارض الأماني مع الواقع، وصعوبة إخراجها إلى حيز الوجود، تبدأ مرحلة “إنكار”، أو ما يسمى بــ”دائرة الخيال”، تتخذ شكل اندفاع سريع وغير مدروس نحو تأمين الأمنية، وبذل المزيد من الجهود نحو تحقيقها.

وقد أشار المتخصصون إلى ثلاث خطوات، تفسر بمجملها الطريق نحو الإحباط المرغوب. ففي الخطوة الأولى، ينشأ سلوك (دعوات، تعبير ذاتي، مناشدات، مظاهرات…الخ) باتجاه تحقيق الأمنية (مرحلة الحلم)، متجاهلين حقيقة الواقع، ومدى تشعبها وتشابكها مع قضايا أخرى؛ وعادة ما تسير هذه المرحلة بسلاسة دون عوائق كبيرة. 

ولعلنا نلاحظ، مع دخول الأسبوع الحالي، تفاعل جمهور غزة مع التسريب “الإسرائيلي” الذي يتناول حلاً لأزمات غزة، واندفاع بعضهم نحو ترويجه، بعد الاستفسار عن بنوده، كي يستجيب لحاجة تعتمر النفس، دون أن يدري أنها تسير به تماماً نحو الاتجاه الذي تريد.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ففي المرحلة الثانية، تواجه الأمنية صعوبات جمة، ينتج عنها شعور بالإحباط، يتسلل بهدوء داخل النفس البشرية، دون أن يصدها تماماً، أو يدفعها للاستسلام. لأن هذه المرحلة، بحسب علماء نفس، تؤدي بشكل لاإرادي إلى تعاظم شعور داخلي قوامه الرغبة في تحدي الصعوبات وموجهاتها، ليندفع الفرد نحو مزيد من الفعل، للتغلب على الإحباط الناشئ. 

وخطورة المرحلة الثانية، تتمثل في ترسيخ غياب المنطقية، وبدء انسلاخ الفرد عن الواقع، ما سيمهد للمرحلة الثالثة الأخيرة. فما أن  تصطدم الأمنية بجدار الحقيقة، حتى يقر الأفراد بصعوبة الواقع، لتتسلل حالة من شبه الاستسلام-انهيار نفسي في بعض الحالات- بعد أن وصل لنتيجة مفادها استحالة تحقيق الأمنية.

وقد يستغرب كثيرون المقال، وقد يرون فيه تضخيماً مخلاً لتسريب إعلامي غير مكتمل، وسيحاجون بأن جمهور غزة لا تسري عليه أحكام المنطق، ولولا ذلك لما صمد كل هذه السنين. ردي هنا بسيط، فذات الحجج التي تقدمها هي أصلاً المستهدفة. 

فتكرار التسريبات ذات الأفق المفتوح على فترات قصيرة، سيؤدي بالجمهور إلى طريقة تفكير محددة، يرى المعيق داخلي لا خارجي، وهو مبعث حالة الإحباط المتوقعة، ما قد يترتب عليها قناعات جديدة، من قبيل عدم جدوى المقاومة، وعدم صلاحية القيادات القائمة، لغياب قدرتها تحقيق ما نصبو إليه. 

فلو تمعنا، مثلاً،  في التسريب “الإسرائيلي” الأخير، سنلاحظ أن الصياغة والمعلومات التي تعرضها، تعكس لاستنتاج واحد وحيد، في كون الخلاص منوط بالفلسطينيين-حماس وفتح تحديداً- مع ظهور “إسرائيل” بمظهر الحريصة المتعاونة المبادرة. 

والبعد النفسي لهكذا تسريبات، يحيل إلى تحريض ضمني لمكونات الشعب، خاصة وأنها تعتمد على خبراته السابقة، والتي عبر استدعائها سيصل إلى استنتاج بصعوبة الوصول لحلول نتيجة خلافات الفريقين. ما يعني دعوة ضمنية للخلاص من كلاهما، واعتناق وجهة نظر “إسرائيل” الأخيرة التي عبر عنها ليبرمان.

وأخيراً، لا تعمل “إسرائيل” بطريقة اعتباطية مشوشة. والضخ الكثيف لرسائل دعائية تخاطب جمهور غزة مباشرة، وتركز على قضايا ترتبط بواقعه المعاش، يعكس لحقيقة استفادتها من تجارب عالمية على الصعيد الإجرائي التطبيقي. فــ”إسرائيل” تسعى إلى إحباط الجمهور، ليصبح مستعداً أكثر من ذي قبل على المساومة، وبالتالي تشكيل حالة ضغط على قيادته للاستجابة. 

وهنا نختم بتوجيه دعوة إلى المعنيين، من أصحاب القرار والإعلاميين، بضرورة تحصين الجبهة الداخلية، وتبني خطاب واقعي، يعكس لعقلانية معالجة القائم، ولا يغذي ذات الآمال التي تستغلها “إسرائيل” لمصلحتها الخاصة. 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

مظاهرات مليونية في اليمن تضامنًا مع غزة

مظاهرات مليونية في اليمن تضامنًا مع غزة

صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام تظاهر مئات الآلاف من اليمنيين، الجمعة، في 14 محافظة بينها العاصمة صنعاء، دعما لقطاع غزة في ظل استمرار الإبادة...