الخميس 04/يوليو/2024

فخامة البصل الوطني!

د. أسامة الأشقر

عندما تخرج في مظاهرة فعليك أن تتعلم التحكّم في يديك فلا تحكّ بهما عينيك إذا أسقطوا عليك قنابل الغاز، واسكب الماء على وجهك من قارورة بيدك لا تفارقك، واستنشِق رائحة بصلة فحلة بأقوى ما لديك من أنفاس شافطة!
تعلّم الطفلُ هذه الوصية، ولكنه عندما وجد الغاز كثيفاً، غسل وجهه بالكوكا كولا الأمريكية الضارّة، وتلثّم بفحل بصل أخضر منزوع من أرض زراعية رطبة حوله، وجلس مرابطاً جِلسةَ مقاتلٍ متحفِّز.
وقد التزم شبابنا الفدائيون والمنتفضون الثائرون فيما خلا من عمر الثورة بوصايا الشيخ الرئيس ابن سينا باستعمال البصل لجلاء البصر وتفتيح الذهن وتلطيف البشرة وترطيبها، وأخبرنا أن عصارته تنفع من الماء النازف في العين!

وقد قرأنا قديماً تجارب المنكوبين للتخفيف عما نحن فيه من كوارث المحتلين الصهاينة المعتدين وأنه عندما اجتاح التتار بغداد وامتلأت المدينة بالجثث المتعفنة بعشرات الآلاف، ورُميت أجساد الأطفال الموتى في الوحول، وتعفن الماء ببقايا الموت المقتول، سمعنا أن ما بقي من الناس كانوا يكثرون شم البصل لقوة رائحة الجيفة وكثرة الذباب الذي ملأ الفضاء؛ وهي أشد قوة ونفاذاً من رائحة الغاز الحرّاق.

وفي المظاهرات الكبيرة مثل مسيرات العودة نفعل فعل المصريين القدماء في يوم شم النسيم، فهم إذا تنفس صبح ذلك اليوم أفعموا خياشيمهم بريح البصل ليدرؤوا عن أعصابهم خمود العام كله كما قال أحد أدبائهم القريبين.
إننا شعب يحب البصل ونحيط به أنفسنا وحيشاننا وبساتيننا الصغيرة، حتى إن المؤرخين يقولون إن عسقلان في ساحل فلسطين استمدت اسمها القديم من اللاتينية “أسكلانيا” وهو البصل، لكثرة ما يزرعونه في الساحل الخصيب هناك.

وإنما نحب البصل ونهيم به لأن هامته مستديرة  ترى من كل جانب، وإذا جُرِح أبكى مَن حوله شفقةً وحزناً!

 وهو يحب الستر، يلف بدنه بقشرة ملوّنة بلون يحمل اسمه “لون بصلي”، وهو يضع القشرة فوق القشرة البيضاء ويستدير على عِرضه وقلبه بكل حنان ولطف. 

وهو يحب السرّيّة مثلنا فيمكنك أن تكتب مراسلاتك الخاصة في الورق بماء البصل المعتصر منه فلا ترى الكتابة، فإذا قربت الورقة من النار ظهرت الكتابة.

ورائحة البصل أطيب من روائح الورد والزهر، ألا ترى أن هذه الزهور سريعة الذبول مريرة الطعم، أما البصل فبه يجود الطعام وتتفتّح القرائح، فهو أطيبُ إذاً وألذّ!

ونحن نأكله نيئاً مع الفول والعدس، ومشويّاً مع شقف اللحم وكباب السيخ، ومطبوخاً مع الإدام والكوامخ، ومسلوقاً مع الحساء الفاخر.

وإنما يطيب اللحم بدفنه في البصل، أو إحاطة الدجاج بخبز الصاج المغمس بزيت الزيتون في المسخّن.

ومع أننا نحب البصل إلا أن ثمة ما لا يعجبنا فيه فرقّة قشرته لا تعجبنا في مثل الحال الذي يحيط بنا، وكان حقها أن تكون صلبة مثلنا لا تقبل الضيم وتأبى الانكسار، وأمر آخر يغضبنا فيه وهو أن طائفة من المحسوبين على قرابتنا يستدرّون دموعهم الكاذبة علينا في الكوارث التي تصيبنا بتقريب بصلة مشقوقة من عيونهم، فيظنهم الناس الغافلون صادقين بينا هم متورطون في الجريمة والإثم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات