هذا التحرّك الفلسطيني

من المستغرب أن يحتاج الرئيس محمود عباس أكثر من أربعين يومًا ليدعو المجلس المركزي الفلسطيني إلى الانعقاد، وهو الإطار القيادي الوحيد الذي أُتيح له أن يجتمع، بعد طول انتظار، للنظر في تداعيات اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني.
وبعيدًا عن الخطاب الطويل للرئيس، أصدر المجلس المركزي توصيات موجهة إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، يطلب منها بحث مسألة سحب الاعتراف بـ”إسرائيل”، لعدم التزامها ببنود اتفاق أوسلو، ومراجعة الاتفاقات الموقعة معها، وخصوصًا المتعلقة باتفاق باريس الاقتصادي الذي رسّخ الهيمنة الصهيونية على مقدرات الاقتصاد الفلسطيني كلها، والتنسيق الأمني معها الذي يسهل من مهمات الاحتلال في السيطرة على المناطق وضرب خلايا المقاومة، ويجعل كلفة الاحتلال رخيصة.
وكان المجلس نفسه في دورته السابقة، قبل عامين، قد اتخذ قرارات لم تُنفّذ بوقف هذا التنسيق المشين. ولعلّ هذا أحد الأسباب التي دعته هذه المرة إلى إصدار توصيات، وليس قرارات، على الرغم من أنه أعلى سلطة في غياب المجلس الوطني الفلسطيني المحتجز في ثلاجة الموتى منذ عام 1988، وعلى قاعدة رحم الله مجلسًا عرف قدر نفسه، ولم يتجاوزه.
المهم هنا أنَّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير اجتمعت في الثالث من فبراير/ شباط الماضي، بعد فترة انتظار احتاجتها لتلتقط أنفاسها، بعد اجتماعها المُضني مع المجلس المركزي الذي ألقى على كاهلها أعباءً تنوء بحملها. وخلُصت هذه اللجنة إلى تكليف السلطة الفلسطينية بتأليف لجان فنية تبحث هذه القضايا، وتعدُّ خططًا لفك الارتباط مع الاحتلال الإسرائيلي، على المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية.
ويوضح هذا الموقف بجلاء أنَّ الرئيس عباس لم يتلمّس بعد موضع قدميه في المرحلة المقبلة. وأنَّه، وعلى الرغم من معارضته قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، ومحاولته إيجاد إطار بديل للمفاوضات، يبتعد كثيرًا أو قليلًا عن الرعاية الأميركية المنفردة لها، إلّا أنّه ما زال يراوح في المكان نفسه، ولم ينفض يديه من عملية المفاوضات التي يسعى جاهدًا للعودة إليها، مستنكرًا اتهام الولايات المتحدة له بأنّه لا يريد التفاوض، وقد عبّر عن ذلك بلفظته الشهيرة “يخرب بيتكم، أنا اللي ما بدي”! محملًا رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مسؤولية التنصل من المفاوضات.
لا شك أنَّ الرئيس عباس تعرّض، بعد إعلان موقفه الرافض قرارات ترمب، لضغوط كبيرة من أنظمة عربية، طالبته بالوقوف عند هذا الحدّ، والاكتفاء بما أُنجز، وعدم السعي إلى مزيد من التصعيد في مواجهة الإدارة الأميركية التي صار موقفها ضعيفًا ومعزولًا على المستويين، الدولي والشعبي. ولكن يصعب القول ما إذا كانت السلطة الفلسطينية قد استجابت إلى هذه الضغوط، أم أنَّ موقفها الحالي المتمثّل في الركون إلى رفضها الذي حظي بتأييد واسع، من دون القيام بأي خطوات إضافية لاحقة، يعبّر عن حقيقة عجزها عن المضي إلى نهاية الشوط، والسعي إلى كسب الوقت أمام قراراتٍ مجحفة، لا توافق عليها ولا تستطيع تمريرها أو تبريرها لجمهورها، لكنّها تقف عاجزة عن معارضتها، أو اقتراح بدائل ثورية تُغيّر من الواقع القائم.
تأخير اجتماع المجلس المركزي، وإحالة توصياته إلى اللجنة التنفيذية التي أحالت، وبعد وقت مستقطع، تلك التوصيات إلى لجانٍ فنية، وكأنَّ مواضيعها قد استجدت فجأة على الواقع الفلسطيني، فلم تُدرس خياراتها وبدائلها عبر مسيرة أوسلو ومفاوضاتها الطويلة. لتُمضي هذه اللجان أسابيعَ وأشهرًا قد تطول في إعداد توصياتها التي ستعيدها إلى اللجنة التنفيذية التي قد ترى أنَّ عليها أن تحيلها مرة أخرى إلى المجلس المركزي. وهكذا تملك منظمة التحرير والسلطة الوطنية ترف الوقت الذي يقطع كالسيف أشلاء الوطن المحتل.
يأتي هذا كله فيما تتسرب أخبار منسوبة إلى المبعوث الأميركي لمفاوضات السلام، جايسون غرينبلات، مفادها أنَّ صفقة القرن لم يعد ينقصها سوى بعض التوابل، وأنَّ الفلسطينيين ليسوا الطرف المقرّر فيها، إذ إنّها خطة سلام عربية إسرائيلية غرضها إقامة تحالف إقليمي يضم
“العرب” وإسرائيل لمقاومة الخطر الإيراني وخطر الإرهاب. وهي، على حدّ قوله، خطة للتنفيذ وليست للتفاوض. مضيفًا أنّه يجب وضع برنامج زمني لتصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) خلال أعوام محدودة. أي تصفية قضية اللاجئين وحقهم في العودة، بعد أن جرى، وفق المنظور الأميركي، الانتهاء من موضوع القدس. في حين يشكّل الاستيطان واقعًا مفروضًا لا نية للمساس به. أي أنّ ما هو معروض على الرئيس محمود عباس، وقد سبق وأن بُحث معه ذلك، من خلال قنوات عربية، ليس أكثر من حكم ذاتي محدود على السكان، وليس الأرض، في بضعة تجمعات سكنية تقل مساحتها عن 20% من مساحة الضفة الغربية. وهو حل لا يستطيع قبوله أو تمريره، مهما بلغ حجم الضغوط أو الإغراءات.
لكنّ هذا الموقف لا يكفي، إذ يجب اتخاذ موقف عملي واضح، يقوم على مواجهة المشروع الأميركي بالوسائل والسبل كلها، والإعلان بوضوح عن وقف جميع أشكال التنسيق الأمني، وغيره من أشكال التعاون مع الاحتلال، بل والإعلان عن انتهاء مرحلة وبداية أخرى في النضال الوطني الفلسطيني، قائمة على رفض السياسات السابقة من جذورها، والتمسك بإنهاء الاحتلال، وإفشال المشروع الأميركي، والعودة إلى ثوابت القضية الفلسطينية.
ثمّة فرصة أكيدة لقلب الطاولة على رؤوس الصهاينة وحلفائهم، وإفشال استبدال القضية الفلسطينية بخطر مزعوم يمكن حل الخلاف حوله بالحوار، وإفشال دمج العدو الصهيوني بالنظام العربي الرسمي، وإبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة. وقد أثبت الحراك الشعبي العربي والإسلامي والعالمي ذلك، بل وحتى الموقف الرسمي لأغلب دول العالم. لكنّ هذا الموقف يمكن تطويره، من جهة تحقيق عزلةٍ كاملةٍ لـ”إسرائيل” وأميركا، عبر تأجيج النضال الفلسطيني، ويمكن إجهاضه عبر موقف رسمي فلسطيني لا يرتقي إلى مستوى المرحلة، ويخشى المواجهة، ويخاف من الثورة والتغيير والمقاومة.
يقترب الموقف الحالي للسلطة الفلسطينية من وصف الإمام علي رضي الله عنه. حيث إنّهم برفضهم مشروع ترمب لا يقفون مع الباطل، ولكن بامتناعهم عن اتخاذ خطوات حقيقية لنصرة الحق فإنّهم يخذلون أمتهم وشعبهم، ويعرقلون مسيرته نحو التحرير.
المصدر: العربي الجديد
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس تهنّئ البابا ليو الرابع عشر لانتخابه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية
المركز الفلسطيني للإعلام تقدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأصدق التهاني والتبريكات إلى البابا ليو الرابع عشر، بمناسبة انتخابه رئيسًا للكنيسة...

الحصاد المر لـ 580 يومًا من الإبادة الجماعية في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام نشر المكتب الإعلامي الحكومي ينشر تحديثاً لأهم إحصائيات حرب الإبادة الجماعية...

رامي عبده: خطة المساعدات الأميركية الإسرائيلية أداة قهر تمهد لاقتلاع السكان من أرضهم
المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية‑الإسرائيلية التي تقضي بإسناد توزيع مساعدات محدودة...

قتلى وجرحى بتفجير القسام مبنى بقوة من لواء غولاني في رفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...