الجمعة 05/يوليو/2024

تقدير موقف سياسي عام

تقدير موقف سياسي عام

مدخل
العالم الذي تشكل في القرن العشرين، بالرغم من حربين عالميين وحرب باردة، غير العالم الذي تشكل في القرن التاسع عشر، أو الذي سبقه. أما العالم الذي أخذ يتشكل بعد العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين سيكون، كما يبدو حتى الآن، مختلفاً اختلافاً نوعياً عن عالم القرن العشرين.

ويرجع هذا الاختلاف إلى عدم وجود سيطرة عالمية لدولة كبرى منفردة أو لدولتين.. فظاهرة العالم متعدد القطبية أخذت تتشكل بسبب تراجع السيطرة الإمبريالية – الغربية، وبسبب بروز قوى دولية مثل روسيا والصين والهند، وتعاظم أدوار قوى إقليمية مثل إيران وتركيا والبرازيل وجنوبي أفريقيا.

وقد اتسمت ظاهرة تعدد القطبية باللانظام والفوضى والسيولة. الأمر الذي أوجد عالماً مضطرباً، مرتبك الاستراتيجيات والسياسات. وليس من السهل توقع مستقبله، هل سينتهي وضعه الراهن إلى بروز قوة دولية، أو أكثر، ليصار إلى تشكل نظام عالمي جديد يتسم بملامح دولية متعددة القطبية مستقرة، أو شبه مستقرة، ولو لردح من الزمان، أم أن وضعه الراهن سيستمر بلا نظام، وفي حالة فوضى واضطراب وسيولة، لزمن غير منظور. وهذا الأخير هو الأرجح.

أمريكا وتراجع هيمنتها
فأمريكا التي تزعمت الإمبريالية الغربية، ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، أخذت بالتراجع المشهود خلال السبع سنوات الماضية. وقد جسد عهدا باراك أوباما هذه الحالة من التراجع والإرتباك وفقدان السيطرة. فقد أسماها أوباما نفسه بـ”القيادة من الخلف”. أما ماذا يقول دونالد ترامب عن عهدي باراك أوباما فلا تسل عن النقد إلى حد التجريح والتعرية. وهذا هو رأي عدد كبير من المحللين السياسيين الذي وصفوا سياسات باراك أوباما بالضعيفة والمترددة والفاشلة. بل اعتبرت دول حليفة تاريخياً لأمريكا، كالسعودية، بأن إدارة أوباما تخلت عنها. ولم تعد تمثل لها ظهيراً، أو حامياً، بل وتركتها لأقدارها، كما حدث في السبع سنوات الماضية من انتكاسات لمحور “الاعتدال العربي”، ولا سيما مصر وتونس.

على أن سياسات باراك أوباما لم تكن مجرد اجتهادات شخصية تتعلق به، وإنما كانت انعكاساً لمسلسل الانتكاسات التي منيت بها إدارة بوش الابن في العراق وأفغانستان. وفشل الكيان الصهيوني في حربي 2006 و2008/2009، في كلٍ من لبنان وقطاع غزة. ثم أضف الأزمة المالية العالمية التي أطاحت بالعولمة الأمريكية في 2008.

أما في المقابل فقد شهدت أمريكا في عهدي بوش الابن تصاعداً، بمستوى قفزات، في روسيا والصين والهند وإيران وتركيا وجنوبي أفريقيا والبرازيل. الأمر الذي زاد من تراجع الهيمنة الأمريكية- الأوروبية العالمية. وعظّم من أدوار وحركات المقاومة وانتفاضات الشعوب والدول المتحررة في أمريكا اللاتينية وآسيا.

ولهذا فإن ما اتسمت به إدارة أوباما من ضعف وتردد وارتباك وتراجع حاد، كان نتاج ميزان قوى عالمي جديد، وأضف إليه ما أخذ يظهر على السطح في أثناء المعركة الانتخابية الرئاسية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب من اضطراب وفوضى وتناقضات في بنية الدولة الأمريكية، والمؤسسة الحاكمة. بل أن نجاح دونالد ترامب، بما يتسم به من شخصية وصفات، دليلاً بارزاً على ما أصاب الداخل الأمريكي نفسه من عوامل ضعف وشيخوخة وتعرية.

أمريكا في عهد دونالد ترمب
ولهذا عندما تسلم دونالد ترمب اجتمعت شخصيته المضطربة مع بنية داخلية منقسمة على نفسها مجتمعياً وسياسياً ومؤسساتياً. وهو ما يفسر لجوءه للجنرالات لمساعدته وبناء إدارته من جهة، ودخوله في معارك داخلية حادة مع الإعلام ومع تقاليد المؤسسة الأمريكية من جهة أخرى. إضافة خلافاته مع أقرب مساعديه الذين اختارهم.

ثم يجب أن يضاف إلى هذا المشهد الفاجع من وجهة النظر الأمريكية، أيضاً، ما عبر عنه بصورة غير مباشرة، البيان الصادر عن باراك أوباما وجورج دبليو بوش منبهاً من حالة أمريكا. هذا وليس بعيداً منه مجرد لقاء الرؤساء الخمسة السابقين ممن بقوا على قيد الحياة: كارتر وبوش الأب وبوش الابن وكلينتون وأوباما. وذلك بالرغم من كون اللقاء لجمع تبرعات إغاثة لضحايا النكبات الطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية إلاّ أنه رسالة أخرى بالمعنى نفسه.

يجب أن يلاحظ هنا أن مجموع الخطوات السياسية التي اتخذها ترمب في سنته الأولى منيت حتى الآن بالفشل تلو الفشل وذلك ابتداءً من مشاريع قوانينه ضد الهجرة، مروراً بما فتحه من معركة ضد الاتفاق النووي مع إيران حيث قوبل بعزلة قاسية من قبل روسيا والصين وإلمانيا وبريطانيا وفرنسا.

ثم جاء المؤتمر المدوي الذي عقده في الرياض وجمع له 53 رئيساً عربياً وإسلامياً ليجعله نقطة حشد ضد إيران وحزب الله وحماس، وإذ به يتداعى ويسقط أرضاً مع توجه كل من السعودية ومصر والإمارات والبحرين لضرب الحصار على قطر. الأمر الذي حوّل المعركة إلى معركة ضد قطر. وليس ضد إيران، واضعاً قمة الرياض على الرف. وما زال هذا المأزق قائماً ليشكل دليلاً على فشل سياسات ترامب من جهة، وعلى عجزها عن تجاوزه بالسرعة الكافية من جهة أخرى.

الأمر نفسه حدث مع اندفاعة ترامب باتجاه القضية الفلسطينية، وقد أعطاه عنوان “عقد صفقة تاريخية”. وكلف اثنين من مساعديه وهما جيراد كوشنر وجيسون غرينبلات ليقوما بالتحضير لهذه الصفقة. وذلك من خلال جولات مكوكية شملت محمود عباس ونتنياهو والسعودية. ولكنها دارت حول نفسها. ولم تستطع أن تتقدم خطوة واحدة. وقد انبرى الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى أعلان إجراءات استثنائية مضاعفة لمحاصرة قطاع غزة لفرض إنهاء الانقسام من خلال مجيء حماس مستسلمة. وذلك بعد أن يُغرق القطاع تحت ظلام دامس ويحرمه بالكامل من الكهرباء فضلاً عن حرمانه من الدواء والماء الصالح للشرب ومن كل المساعدات الصحية والاجتماعية والمالية التي كانت تقدمها سلطة رام الله إلى القطاع.

هذه الخطوة لم تكن بعيدة عن تفاهم مع أمريكا إذ كان جيسون غرينبلات طالب “سلطة رام الله أن تستعيد سلطتها على القطاع من أيدي حماس” (تصريح في 20 آب 2017). وكانت له تصريحات أخرى سابقة ولاحقة بالمعنى نفسه. ولكن هذه الخطوة سرعان ما أُحبطت نتيجة تحرك قيادة المخابرات العامة المصرية بإجراء تفاهمات مع وفد من حماس برئاسة يحيى السنوار. وقد عُززت بتفاهمات مع محمد دحلان. الأمر الذي وجه رسالة تعرية لمحمود عباس ومن خلاله لدونالد ترامب نفسه، مفادها أن أي تحرك باتجاه القضية الفلسطينية، أو قطاع غزة، يجب أن يمر من خلال مصر، وليس من خلال تجاهلها والتحرك كأنها غير موجودة كما فعل كوشنر وغرينبلات.

هذه الخطوة المصرية أجبرت محمود عباس على العودة إلى مصر، وأدت إلى استعادة مصر للملف الفلسطيني. وقد ترجم ذلك بإعلان بيان مصالحة بين حماس وفتح صدر في القاهرة.

على أن هذا التطور نقل الوضع في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية إلى مرحلة جديدة تختلف عن المرحلة التي سبقتها، سواء أكان من جانب تحرك دونالد ترمب الذي عبر عنه كوشنر وغرينبلات من جهة، أم كان من جانب محمود عباس في محاصرة قطاع غزة، أم كان من جانب وضعية الانقسام الفلسطيني والانتقال إلى مرحلة أولى من مراحل المصالحة بين حماس وفتح من جهة ثالثة. أما ماذا بعد؟ فهو وقوف المرحلة الجديدة أمام مفترق طرق لا تستطيع قوة معينة من أطراف الصراع فيها أن تقرر المستقبل وحدها، أو تكون صاحبة الدور الذي يفرض أهدافه واستراتيجيته.

هنا نجد أنفسنا أمام سمة جديدة مضطربة للوضع العالمي وللوضع الإقليمي والعربي والفلسطيني وذلك، إلى جانب أسباب أخرى، نتيجة تراجع الهيمنة الأمريكية واهتزاز سياسات ترامب.

فعلى سبيل المثال أعلن محمود عباس في أثناء الحوار بين وفدي فتح وحماس حول المصالحة في القاهرة: “أن لا مصالحة إلاّ على أساس سلطة واحدة وسلاح واحد وأجهزة أمنية واحدة وقرار واحد للسلم والحرب”، فيما أعلنت قيادات من حماس أنها ستقبل بأن تتسلم سلطة رام الله كل السلطة في قطاع غزة عدا سلاح المقاومة وأنفاقها وأمنهما. الأمر الذي يضع المصالحة مع الإصرار المصري عليها، خارج التعرض لنقطتي الخلاف، أي عند الحدود التي وصلتها الآن، أو تحت سقف هذه الحدود. مما يعني أننا أمام صيغة مصالحة تتضمن الاختلاف المشار إليه أعلاه وهو كاللغم من تحتها. أما السعي لحسمه وفقاً لشروط محمود عباس فسيعود بالإنقسام إلى مربعه الأول. لكن الأهم أين أمريكا وهذه التطورات؟

لقد اتسمت الأشهر العشرة الأولى من عهد دونالد ترامب بالهوجائية واللاتركيز. وذلك عبر فتح معارك متعددة، في آن واحد، ضد النووي الكوري الشمالي، وضد الاتفاق النووي الإيراني، وضد داعش، وضد حزب الله وحماس، وضد روسيا والصين فضلاً عن معاركه مع حلفائه سواء حول اتفاق المكسيك وأمريكا وكندا (نفتا)، أو الاتفاق الأمريكي- الآسيوي (الإتفاق الاقتصادي عبر المحيط الهادي) (أبيك) أو صراعه مع ألمانيا وفرنسا حول اتفاقية المناخ أو الاتفاق النووي الإيراني، أو مشروعه لعقد صفقة تاريخية حول الصراع في فلسطين، أو موقفه من حلف الناتو.

على أن أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي شهدت تطوراً في تركيز إدارة ترامب على إيران وحزب الله. وذلك من خلال إقرار أربع قوانين في مجلس النواب ضد إيران وحزب الله وسترفع للإقرار في مجلس الشيوخ، ثم سيوقع عليها الرئيس الأمريكي وهي “قانون الصواريخ البالستية الإيرانية” وقانون اعتبار حزب الله بأكمله تنظيماً إرهابياً. وذلك بعدم الفصل بين جناحيه العسكري والسياسي، وقانون ضد استخدام الدروع البشرية، وقانون ضد تمويل حزب الله. وهذه القوانين الأربعة تتضمن عقوبات مالية ومقاطعة. أما الجديد الآخر فيها فكونها صدرت باتفاق أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري. هذا وسيُطالب ترامب أوروبا بالمشاركة فيها ما دامت لا تتعلق مباشرة بالاتفاق النووي الذي شكل الموقف منه نقطة صراع حادة بين إدارة ترامب وكل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، (والاتحاد الأوروبي).

وإذا أضيف إلى هذا التطور الاحتفاء بتكريم ذكرى 241 أمريكياً قتلوا بتفجير ثكنة المشاة (المارينز) في بيروت عام 1983 فإن المتوقع أن تضاعف إدارة ترامب تركيزها على إيران وحزب الله. وهذا ما تؤكده تصريحات تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي وجولته التي شملت السعودية وقطر وباكستان. لقد جاء معززاً للتركيز الجديد المشار إليه بأن تخفف لهجة ترامب بالنسبة إلى كوريا الشمالية في لقاء القمة الأمريكية- الصينية.

من هنا سوف يُواجه محور المقاومة والممانعة، بالرغم مما أحرزه من قوة ونجاحات، في المرحلة القادمة تكتلات عربية وإسلامية ودولية ضده. مما يفترض بأن يُصار إلى اتخاذ خطوات للرد المسبق على ما هو متوقع من سياسات أمريكية في المرحلة القادمة. ولعل اللقاء الأخير بين بوتين والمرشد الأعلى آية الله الخامنئي أولى تلك الردود.

وبالمناسبة ليس بلا دلالة أن تتجاوز أمريكا ما يمكن أن تمثله روسيا والصين من منافسة دولية كبرى لها، وتنتقل إلى أن تصبح إيران في مركز استراتيجيتها العالمية كما فعلت إدارة جورج دبليو بوش حين وضعت العراق والإرهاب أولويتها الاستراتيجية. مما أفسح المجال لاستعادة روسيا دورها كدولة كبرى وسمح للصين أن تتقدم بخطى واسعة وفي كل الميادين لتصبح الدولة الكبرى الثانية من حيث قوتها الاقتصادية عالمياً.

إن تفسير هذا الخلل الاستراتيجي في المرة الأولى، وفي المرة الحالية يكمن في الانحياز المبالغ فيه للاستراتيجية الصهيونية التي تجعل من إيران وحزب الله (ومحور المقاومة والممانعة كله بما فيه المقاومة في قطاع غزة) أولويتها الاستراتيجية، في هذه المرحلة، كما جعلت أولويتها في المرحلة السابقة الحرب على العراق واحتلاله وتدميره تلبية لحقد صهيوني عميق ضده.

ولهذا كما أدت تلك الأخطاء الاستراتيجية إلى بروز منافسين كبار للإمبريالية الأمريكية وإلى تورط أمريكا في حروب نتيجتها فاشلة، وقد عادت بالخسائر الفادحة عليها، سوف تؤدي، في المرحلة الراهنة، إلى الإخفاق والفشل. الأمر ا

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

7 شهداء بعد قصف الاحتلال لمنزل في جنين  

7 شهداء بعد قصف الاحتلال لمنزل في جنين  

جنين – المركز الفلسطيني للإعلام استشهد 7 شبان فلسطينيين، صباح اليوم الجمعة، جراء قصف إسرائيلي بطائرةٍ مسيرة استهدف مجموعة من الشبّان في مخيم جنين...