السبت 29/يونيو/2024

المقاومة وجدلية الحرية والأمن

محمد الجمل

1- حوار مع رجل أمن:
قال لي ضابط أمن: لماذا لا تقدرون دورنا في حفظ الأمن؟ ألا تدركون قيمته؟ وهل تستطيعون العيش بدونه؟ ألا تعلمون حجم التضحيات التي نقدمها حتى نوفره لكم؟

قلت: بلى، أعلم ذلك وأقدره عالياً، وبالفعل لا تستقيم الحياة بدون أمن، ولكن حقوقنا لا تقتصر على الأمن وحده! فأنا وأنت كبشر نستحق الحرية والحياة الكريمة إضافة إلى الأمن. ولكن المستبدين في أمكنة وأزمنة مختلفة يضعوننا أمام اختيار مضلل؛ فإما أن نختار الأمن أو الحرية، وهم حينما يفعلون ذلك ينطلقون من افتراض أنهم إنما يقدمون هبات من ملكهم الخاص إلى شعوبهم، بل إنهم على استعداد للإخلال بالأمن بأنفسهم حتى تخاف شعوبهم من جريرة أفعالهم إذا طالبوا بالحرية، وما حادثة كنيسة القديسين منا ببعيد!

2- جدلية الحرية والأمن:
هذا الحوار جزء من جدلية أزلية وأظنها أبدية بين الأمن والحرية، إذ لا يتوقف البشر عن الإتيان بالحجج والدلائل لتوسيع حدود أحدهما على حساب الآخر، ومن أبرز جوانب هذا الجدل موضوعات: الخصوصية مقابل التجسس أو التصنت، وحرية التعبير مقابل الكبت، ويميل الرأي العام للشعوب إلى تحديد حدود عمل الجيوش وأجهزة الأمن في سبيل حماية المكتسبات الأساسية لنهضة الشعوب، وعلى رأسها الحرية.

وهنا يلزم التذكير بأن الحرية مبدأ يعطي لحياة الإنسان المعنى والقيمة، وأن ما ميز الله به الإنسان على الملائكة وعلى الحيوانات هو حرية الاختيار التي تمكّنه من السمو على رتبة الملائكة أو الانحدار إلى أدنى من الحيوانات، كما يلزم التذكير بأن فقدان الحرية يستتبع الانفجار وفقدان الأمن، كما يستتبع فقدان الانتماء والمسؤولية.

3- نظرة الشعوب العربية إلى أجهزة الأمن:
تنتشر في عالمنا العربي نظرة توجّس إلى أجهزة الأمن والاستخبارات، وتظهر في الأدبيات والأمثال الشعبية العديد من الشواهد على ذلك، وأشهرها المثل الشعبي القائل “الحيطان لها آذان” المعبّر عن إفراط أجهزة الاستخبارات في التصنت على شعوبها وزرع المخبرين بينهم، وهو المعنى الذي عبّر عنه الشاعر أحمد مطر بتسميته الحاكم العربي “أمير المخبرين” بدلاً من “أمير المؤمنين”.

بل إن النظرة الشعبية تصل أحيانا إلى حد العداوة مع بعض هذه الأجهزة؛ تبعا لمقدار تجاوزاتها وانتهاكاتها؛ ويمكننا أن نلحظ ذلك بوضوح في مهاجمة الشعب المصري عقب الثورة الكثير من مقرات جهاز أمن الدولة وإتلاف سجلاتها، وكذلك في حالات الانتقام الشعبية ضد كوادر أجهزة الأمن والاستخبارات العراقية عقب الاحتلال الأمريكي للعراق.

4- كيف تبدأ القصة:
تبدأ قصة تمدّد أجهزة الأمن منذ بداية تشكل الدول؛ إذ تلجأ الشعوب إلى تشكيل مؤسسات لتوفر لها حاجتها إلى الأمن الداخلي والخارجي، فتنشئ الجيش وأجهزة الأمن وتفرز لها أبناءها؛ سواءً بالخدمة الإلزامية أو بالانتظام الكامل، كما تقتطع الشعوب من دخلها لتوفر الموارد اللازمة لبناء قدرات هذه الأجهزة لوجستياً وعملياً، إلا أنه مع تراكم القوة العسكرية لدى الجيوش فإن ذلك يغري قيادتها في كثير من الأحيان بفرض ما تريده على الدولة والمجتمع وبتقديم مصالحها على مصالح الشعب مستخدمة أبناء وأموال الشعب ضد مصلحته، وقد أظهرت دراسة على الانقلابات العسكرية التي حصلت في إفريقيا خلال عقد الخمسينات من القرن الماضي أن الدافع الأساسي لأكثر من نصف هذه الانقلابات هو مطالب خاصة بالجيش، بعيدا عن أي دوافع تهمّ عموم الشعب.

وبالمثل فعندما تتراكم القدرات والمعلومات لدى أجهزة الأمن والاستخبارات؛ فإن ذلك يغري قيادتها بتوظيف ما تملكه للسيطرة على مجالات الحياة المدنية،؛ فنجد أن الجيوش وأجهزة الأمن والاستخبارات تسيطر على السياسة والاقتصاد والإعلام والعمل الاجتماعي في الكثير من دول “العالم الثالث”. وترتبط هذه الظاهرة عادة بالاستبداد السياسي؛ إذ تنشأ علاقة اعتمادية متبادلة بين الحاكم المستبد وبين أجهزة الأمن؛ حيث إنه لا يستطيع أن يديم استبداده إلا بردع شعبه عن معارضته، وهو ما يمثل مصلحة مشتركة مع من يريد أن يتغول على مقدرات الشعب من قادة أجهزة الأمن.

وحيث إن الأمن حاجة أساسية للشعوب، وإن له علاقة -بشكل أو بآخر- بجميع أوجه الحياة تقريبا؛ فإن المبرر لتغول أجهزة الأمن جاهز دائماً، وهو “الاعتبارات الأمنية” و”المصالح الأمنية” التي غالبا ما تحتكر هذه الأجهزة معرفتها وتعريفها بذريعة سرّيتها، بالضبط كما تحتكر الأنظمة الاستبدادية حق تعريف ما تسميه “المصالح الوطنية العليا”.

5- توازن الحرية والأمن:
في سياق السعي للتوازن بين الحرية والأمن تجدر مراعاة الملاحظات التالية:
•الحرية لها حدودها: بحيث لا تمس حقوق الآخرين.
•الحرية مسؤولة: كل إنسان يتحمل مسؤولية اختياره الحر.
•جوهر الأمن يحققه الالتزام الذاتي وليس الإلزام المادي، ويأتي هذا الالتزام بشكل أساسي من القيم والقناعات التي يتبناها أي مجتمع، وعلى رأس ذلك مستوى الانتماء والرضا العام لدى أفراد ومكونات أي تجمع بشري.
•يقوم الدستور باعتباره عقدا اجتماعيا بين المواطنين ودولتهم بتحديد الحدود الفاصلة بين الحرية والأمن، إذ يحرص على صيانة الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين؛ وينصّ على استثناءات محددة زمنياً في ظروف محددة منها التهديدات والمخاطر الأمنية وبما يتناسب مع حجم هذه التهديدات؛ بحيث لا تطغى هذه الاستثناءات على الأصل -وهو تمتع المواطنين بأكبر قدر من الحرية، بما يطلق طاقاتهم في بناء دولهم والاستمتاع بحياتهم-، فيما يُفترض أن تتولى السلطتان التشريعية والقضائية مسؤولية تفصيل وتطبيق هذا العقد الاجتماعي على أرض الواقع.
•تضع الكثير من الدول ضوابط على عمل الجيوش وأجهزة الأمن إدراكا منها لأهمية ترشيد إدارة القوة التي تمتلكها؛ ومن هذه الضوابط:

أ‌-تقسيم المؤسسات العسكرية والأمنية إلى تخصصات؛، وتنويع مرجعياتها؛ بحيث يكون بعضها تابعا لرئاسة الدولة وبعضها الآخر تابعا لوزارة أو أكثر من وزارات الحكومة، وقد اتخذت تركيا إجراءات من هذا النوع عقب محاولة الانقلاب الأخيرة.
ب‌-تحديد أحجام هذه المؤسسات وأعداد كوادرها ونسبتهم من عدد المواطنين؛ بما يتناسب مع المهام الموكولة إليها.
ت‌-تعريف اختصاصات هذه المؤسسات في الدستور أو القانون؛ ومعروف أن التعريف ينبغي أن يكون “جامعا” لكل ما يدخل في إطاره؛ و”مانعا” لدخول أي شيء غيره في إطاره.
ث‌-الرقابة البرلمانية؛ إذ تحتوي غالبية البرلمانات على لجنة لشؤون الدفاع والأمن، مهمتها الرقابة على الجيش وأجهزة الأمن ودراسة التشريعات الخاصة بعملها.
ج‌-الرقابة الصحفية والشعبية؛ إذ تكفل قوانين الكثير من الدول “حق الوصول إلى المعلومة”، وهو ما ينطبق جزئيا على عمل الجيش وأجهزة الأمن، وتشكل هذه الرقابة أداة ضغط وتوجيه لضبط عملها وفقا لمصلحة الشعب كما يراها الشعب.
ح‌-تحدّ العديد من الدول من مشاركة الكوادر العسكرية والأمنية في العملية السياسية، إذ تمنع مشاركتهم في الانتخاب أو ترشحهم للمناصب العامة كالبرلمان والحكومة.
خ‌-تشترط قوانين العديد من الدول أن يكون الوزراء المسؤلون عن الجيش والأمن من المدنيين، بما يعزز الرقابة المدنية للدولة على الشق العسكري والأمني، ففي الولايات المتحدة مثلا يشترط القانون في المرشح لمنصب وزير الدفاع مضيّ سبع سنوات على الأقل على تقاعده من الجيش.

6- الأمن والحرية في سياق المقاومة:
إن المقاومة حرب من أجل الحرية، ولا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت روح الحرية متّقدة في نفوس أبنائها. وهذا ما لخّصه عنترة بن شداد بقوله “إن العبد لا يكرّ”، وما عبّر عنه محمد عبده بقوله “إن من يريد أن يكون سيداً في بيته، إنما يربي عبيدا لغيره”؛ فإذا جبن المقاوم عن التعبير عن رأيه فهو عن مواجهة عدوه أجبن.

والمقاومة روحها التضحية، ومن يسيطر عليه الخوف على رزقه ووظيفته أو نفسه لن يكون قادرا بحال على مواجهة العدو والتضحية بهذه الأشياء التي يخاف عليها، إذ إن فلسفة كل من: الحرص على مصالح الدنيا والاستخذاء أمام العدو في سبيل هذه المصالح فلسفة واحدة، وهذا مما يفسر انهيار جيوش وأجهزة أمن الكثير من الدول أمام هجمات أعدائها وكأنها نمر من ورق.

وعليه؛ فينبغي أن تتوازن مسارات العمل المقاوم بين العمل العسكري والأمني والفكري والثقافي والسياسي والإعلامي والمالي، بحيث لا يطغى أحد منها على الآخر؛ إذ يُفترض أن تحمل المقاومة بذور دولة قابلة للحياة والازدهار؛ مما يزيد قناعة الشعب بها واستعداده لإسنادها.

ومع الإقرار بازدياد أهمية الأمن في العمل المقاوم بفعل الاستهداف العالي المستوى للمقاومة، إلا أن ذلك يفترض أن يتكثف الجهد الأمني في حدود المجال الأمني ودون التجاوز إلى غيره، ويمكن تشبيه هذه الحالة بحالة الدرع الذي يحمي صاحبه من سيوف مبارزيه، إلا أنه إن كان ثقيلا للغاية، أو معيقاً لحركة أعضاء الجسم، فإنه سينقلب تهديدا حقيقيا على حياة صاحبه في ساحة المعركة.

ومن العوامل التي تضمن ذلك: تركّز العمل الأمني حول العدو هجوما ودفاعا، وتفادي تركّز الجهود على الداخل أو التوسع في تعريف الأمن بما يتداخل مع غيره من الاختصاصات؛ وبما يمكن أن يوفر غطاءً للاستبداد أو الفساد بذريعة الحفاظ على الأمن.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات