الأحد 04/أغسطس/2024

مئوية بلفور

د. ناجي شراب

أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى المئوية لوعد بلفور الذي يحمل اسم وزير خارجية بريطانيا، جيمس بلفور، الذي أصدر وعداً باسم صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا. وبصفته وزيراً للخارجية، وليس بصفته الشخصية يمنح بموجبه اليهود وطناً قومياً لهم في فلسطين.

الوعد يعبر عن إرادة بريطانيا، وليس وعداً شخصياً، وهذا معناه ارتباط الوعد بالسياسة البريطانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. صحيح أن الوعد صدر عام 1917 لكن لا يمكن فهم دوافعه إلا بوضعه في سياقه التاريخي والسياسي الذي صدر فيه. فالمسألة لا تتعلق باليهود، إنما ترتبط بالدوافع والمصالح العليا التي حكمت السياسة البريطانية. والأمر الآخر أن الوعد لم يقتصر على كونه صدر عن بريطانيا فقط، بل أخذ بعداً أوروبياً وأمريكياً أوسع وأشمل. وقراءة الوعد لا ينبغي أن تقتصر على مجرد تحليله، والوقوف على دوافعه، وإن كان ذلك أمراً مطلوباً، ولكن بقراءته بعد مئة عام، أي في السياق السياسي الحاضر. وهل حقق الوعد أهدافه؟ وهل ما زالت هناك مراحل أخرى؟

الظروف التاريخية التي صدر في سياقها الوعد قد لا تختلف كثيراً عن الظروف والمحددات السياسية التي تحكم علاقة المنطقة العربية بالقوى الدولية والإقليمية الخارجية اليوم. ويبدو أن الهدف الأوسع والبعيد المدى للوعد ليس فلسطين فقط، بل المنطقة العربية كلها، والهدف الاستراتيجي هو تفكيك المنطقة العربية وإعادة تقسيمها. المرحلة الأولى هي مرحلة صدور الوعد الذي تزامن مع اتفاقات سايكس- بيكو ومؤتمر سان ريمو.

والهدف تقسيم المنطقة على أساس قيام الدول القطرية، حيث نشأت كثير من الدول العربية استناداً لهذا الاتفاق، وتم وضعها تحت الانتداب البريطاني والفرنسي وهما القوتان النافذتان وقتها، واليوم نتحدث عن دور أمريكي وروسي مثلاً. وتزامن صدور الوعد أيضا مع مرحلة التوسع الاستعماري، وما عرف تاريخياً بالمسألة اليهودية في أوروبا، وظهور تيارات فكرية تتراوح بين اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، أي حل المسألة اليهودية أوروبياً، وبين التيارات التي تطالب بترحيلهم إلى فلسطين. وهنا تلاقت أفكار الحركة التي تؤمن بأن عودة المسيح مرتبطة بقيام وطن قومي لليهود. بهذا التفسير ارتبط صدور الوعد بتحقيق المصالح الاستعمارية، وكآلية استراتيجية للحيلولة دون وحدة الدول العربية، والتهيئة لتقسيم المنطقة وتفكيكها في مرحلة لاحقة.

ومن العبر التي يمكن أن تقرأ من الوعد في مئويته، وضع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني لتقوم بريطانيا بوضع البرامج التنفيذية لترجمة الوعد على أرض الواقع. علماً بأن اليهود لم يمثلوا في فلسطين يومها إلا أقلية صغيرة، ولم يملكوا إلا القليل من الأرض عند صدور الوعد.

وهذان هما العنصران اللذان اعتمدت عليهما سياسة بريطانيا واليهود لجعل الوعد حقيقة سياسية تحتاج أولاً: عنصر السكان، وهنا تبنت بريطانيا سياسات الباب المفتوح والسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين، وثانياً: عنصر الأرض، بتسهيل السيطرة على الأرض.

ونضيف لهذين العنصرين العنصر الدولي، بمعنى الحصول على الشرعية الدولية لوعد بلفور وتبنيه من خلال الأمم المتحدة، في صورة استصدار القرار رقم 181 الذي أجاز قيام دولتين، عربية على مساحة تقارب الأربعة والأربعين في المائة من مساحة فسطين، والدولة اليهودية على مساحة تقارب الأربعة والخمسين، والقدس تحت الإشراف الدولي. ومع ذلك فإن «إسرائيل» لم تنفذ القرار، بل استولت على معظم الأراضي. ومن العبر المهمة في قراءة الوعد بعد مائة عام هو نجاح الحركة اليهودية إلى جانب العناصر الثلاثة السابقة في بناء المؤسسات السياسية، والتعليمية كالجامعة العبرية في القدس.

إننا نشهد اليوم تنفيذ المرحلة التالية من وعد بلفور، وهي مرحلة إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة على أسس جديدة إثنية وعرقية، وطائفية، والعمل على تفكيك الدول العربية الكبرى إلى دويلات وكينونات سياسية صغيرة يسهل ابتلاعها، وإعادة بناء بنية القوة فيها على أساس أن تكون «إسرائيل» هي الدولة المحورية القيادية. في سياق هذه القراءة التاريخية السياسية؛ تكمن أهمية وحتمية قيام الدولة الفلسطينية التي ستغير من شكل الصراع، وتحول دون تنفيذ المرحلة الثالثة من تفكيك وتقسيم المنطقة العربية.

المصدر: صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

أحرار العالم يلبون نداء نصرة غزة والأسرى

أحرار العالم يلبون نداء نصرة غزة والأسرى

عواصم - المركز الفلسطيني للإعلام لبى أحرار العالم، اليوم السبت، الدعوات للمشاركة في فعاليات "اليوم الوطني والعالمي لنصرة غزة والأسرى". ودعا القائد...