الأحد 04/مايو/2025

جنايتنا على أعيادنا

لمى خاطر

ذات عيد قبل سنوات؛ أرسلتُ إلى زوجة شهيد رسالة تهنئة، وكانت حديثة عهد بفقد زوجها، وجرحها ما زال ندياً، كانت الرسالة خجولة ومعتمة، وضمّنتها أبياتاً من الشعر تنعى الفرح في العيد في ظل الدم والمآسي، لكنها ردت عليّ مهنئة وقائلة إننا سنفرح بالعيد رغم كل شيء، لأن العيد إنما شرعه الله للفرح والابتهاج وليس لاجترار الأحزان فيه.

علمتني تلك الرسالة الموجزة درساً مهما، وهو أن من متطلبات اتساق المرء مع فطرته وطبيعته التي خلقه الله عليها أن يحسن جعل لكل مقام مقال في حياته، وألا تتداخل عنده الألوان والمشاعر كأن يصرّ على رؤية العتمة رغم سطوع الشمس، أو يستمطر الحزن إذا حل موسم للفرح، أو أن يفسد كل سعادة طارئة بالإطلال عليها من نوافذ الأسى والحسرة. ونحن في حياتنا كثيراً ما نتكلف المشاعر في غير وقتها، ونستهلك أنفسنا في مجاملات لا طائل منها، وقد لا تكون تعبيراً عن قناعات لدينا بالضرورة بقدر ما هي حرص على صورتنا الرصينة في أعين الآخرين.

والعيد واحد من هذه المناسبات التي يختلّ فيها أحياناً ميزان التعامل معه وفقاً لاختلال فهمه ووعي حكمة مشروعيته، إذ صار في أحسن أحواله تقليداً لا بد منه مرتين في العام، وفي أسوأ أحواله محطة لحضور رتل من الالتزامات المادية التي تفوق طاقة كثير من الناس، أو مناسبة لا يُبقي المرء فيها مأساة إلا ويتذكرها، أو جرحاً إلا وينكأه من جديد، ليصدّر لنفسه صورة الممتنع عن الفرح تضامناً مع أحوال المكلومين.

فقهت معنى التسليم بأوامر الله، انطلاقاً من العبر التي جسدتها قصة إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل، حين افتداه الله بذبح عظيم بعد أن كان من إبراهيم الطاعة والتسليم

ضاعت ملامح أعيادنا منذ أن حمّلناها أعباء فوق طاقتها، مادياً ونفسيا، ومنذ أن فاتنا أن الله تعالى شرعها لنا لتكون أعياداً لا مآتم، ولأن إظهار السرور بشعائر الله وتعظيمها جزء من عبادته وشكره على نعمه الجمّة، نعمة الهداية إلى الإسلام، ونعمة بلوغ رمضان ثم ختمه (في عيد الفطر)، وتأدية عبادات شهر ذي الحجة وعلى رأسها فريضة الحج (في عيد الأضحى). وضاع أجمل ما في أعيادنا يوم لم تعد عند كثير منا أو بعضنا فرصة للتآخي والتصافي والتطهر من الأحقاد والضغائن، ويوم أن صارت زيارات الأرحام تقليداً شكلياً يستثقله بعض الناس ويثرثرون كثيراً حول ضيقهم به.

وإن منا من قد يجني على أعيادنا فيسلبها أجمل معانيها، إما بظنه أنها مناسبة للتحلل من كل ضابط، والإسراف في الإنفاق، والإغراق في الشهوات بلا حدود، والولوغ في المحرمات، وإما باستغلالها لإظهار الورع الزائد والترفع عن مواطن البهجة الرائقة، والتقتير في إسعاد نفسه وأهله، متناسياً قوله تعالى: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ”. أما مآسي المسلمين وجراحات الأمة، فاستحضارها في أعيادنا لتكون عاملاً ناهياً عن الاحتفاء بها ينطوي على تنطع ومبالغة في إظهار الشعور بآلام الآخرين، إلا إن كان الأمر من باب التذكير بها ودعاء الله بأن يغير حالها في قادم الأعياد.

لكن واقعنا المؤلم لن يسعفه وينهي مأساته حَشْرُنا إياه في لحظات معدودة شرعها الله لإظهار السرور وشكره وطاعته وصلة الأرحام ونشر معاني المودة والتآخي. ففي أيام المسلم الكثيرة سعة كافية ليقف عند مسؤولياته تجاه هموم بلده وأمته، وليتعامل مع نداء الواجب بإيجابية وفاعلية، وليس عبر تضامن شكلي عابر. وليس مثل العيد مناسبة لبثّ معاني الاستبشار والأمل بين الناس الذين طحنتهم الآلام وحاصرتهم النوائب، وبناء جدر اليقين في النفوس اليائسة، أو المستبطئة نصر الله، أو المستعجلة تحقيق وعده، لأن هذا اليقين إنما يُبنى إذا ما عظُمت شعائر الله في النفس، وفقهت معنى التسليم بأوامر الله، انطلاقاً من العبر التي جسدتها قصة إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل، حين افتداه الله بذبح عظيم بعد أن كان من إبراهيم الطاعة والتسليم، ومن إسماعيل الرضا والصبر، فكان من الله تعالى إحسان الجزاء للمحسنين.

نسأل الله أن يُسعد أمتنا بأعيادها، وأن يغيّر حالها، ويُبرئ جراحها، وأن ينير بصيرتها، ويهديها سبل الرشاد والإعداد والقوة، والنصر والتمكين، وأن يجنّبها الهم والحزن، والعجز والجبن، والركون إلى الظالمين.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات