الثلاثاء 25/يونيو/2024

كالأيتام على موائد اللئام

صلاح الدين العواودة

منذ بيان القيادة الفلسطينية الذي نبذ (العنف) والذي عدّ المقاومة الفلسطينية المسلحة إرهابا في الرابع عشر من كانون الأول عام 1988، أصبح الأسرى الفلسطينيون أيتاما على مائدة عملية التسوية؛ حيث يلتقي الكبار فيتفاوضون ويأكلون ويتقاسمون الكعكة، ثم يبحث الأسرى خلفهم عن فتات، فلا يجدون هذا الفتات! 

كانت مشاعرنا في سجون الاحتلال مساء الثالث عشر من أيلول من العام 1993 مشاعر مختلطة مرتبكة لم يعرف فيها الأسرى الفلسطينيون هل سيفرحون وهم يرون المصافحة الشهيرة على الحشيش الأخضر في البيت الأبيض بين “قائد ثورتهم ورمز نضالهم” من جهة وبين سجّانيهم وقاتلي شعبهم وسالبي وطنهم من جهة أخرى.

لم يعرف الأسرى هل سيفرحون أم يبكون! هل سيفرحون لأن هناك أفقاً جديداً سيفتح -كما ظنوا- أمام شعبهم غير القتل والتشريد والأسر! 

أم أنهم سيبكون؛ لأن رمزهم يصافح سجانهم وهم ما زالوا في السجون محكومين بالسجن مدى الحياة!

منذ اللحظة الأولى بدأت مأساة الأسرى الفلسطينيين تدخل منعطفاً بشعاً كريهاً أكثر كراهةً من الزنزانة نفسها! 

عندما نادى بعض الأسرى على السجان في قسم 12 في سجن عسقلان ليفتح الباب، فرد عليهم السجان السّادي متلذّذاً ساخراً: ما زال مبكراً.

لقد كان من الطبيعي والمتوقع أن تكون الخطوة الأولى والبند الأول الذي يتم الحديث عنه بين طرفين متحاربين فور الاتفاق على وقفٍ لإطلاق النار فضلاً عن اتفاقيات سلام أو اعترافٍ متبادل هو إطلاق سراح الأسرى جميعاً، ولكن الحج أحمد جبارة (أبو السكر) الذي كان يمضي حكماً مدى الحياة منذ العام 1976 في سجون الاحتلال بسبب مشاركته في المقاومة، والذي نزل إلى ساحة سجن جنيد (الفورة) في الصباح التالي تفاجأ أنه ما زال في السجن!

وإن وسائل الإعلام التي تناولت أدقّ التفاصيل لاتفاق أوسلو حتى تعابير الوجه ولغة الجسد وقَصَّة البدلة التي ارتداها الرئيس الفلسطيني التي كان عليه أن يغيرها شرطاً لدخوله البيت الأبيض، لم تتناول موضوع الأسرى الفلسطينيين نهائياً، عندها تجسّدت المأساة.

ليس في الاعتقال ولا في الإضراب عن الطعام ولا في اختناقات الغاز الخانق الذي كان يصبُّ على الأسرى في زنازينهم في كل مواجهةٍ مع إدارة سجن جنيد، بل والتي كان فارس (مدير سجن جنيد سابقاً) يعدّها حصةً مقسومةً للأسرى وفق جدولٍ زمني، ولا حتى في الهراوات التي تكسرت على أجساد الأسرى العارية في السبعينات وهم يرفضون نداء السجان بكلمة سيّدي.

هي المأساة التي ما زالت مستمرة والتي يجسدها الأسير محمد الطوس (أبو شادي) (63 عاماً) من الجبعة غرب مدينة الخليل الذي ما زال يقضي حكماً مدى الحياة في سجون القهر منذ مطلع العام 1985، والذي ترك زوجةً وأطفالاً كبروا وتخرجوا من الجامعات، وتزوجوا وأنجبوا له أحفاداً لا يعرفهم؛ بل وشاخ وابيضّ شارباه وهو ينتظر لقاء رفيقة دربه وشريكة حياته التي لم تشِخ فقط، بل لم تستطع البقاء منتظرةً أكثر من ثلاثين عاماً؛ فلقيت ربها صابرةً محتسبة وزوجها ما زال يعانق قضبان السجن.

ما يقارب العشرين ألفاً من الأسرى كانوا في السجون ليلة البيت الأبيض السوداء تلك في الثالث عشر من أيلول، لم يتذكرهم فيها إلا عائلاتهم والسجان النّكد الذي لم ينس أن يعدّهم جيداً قبل أن يخرج إلى بيته أو مكتبه.

بدأنا في اليوم التالي نواسي بعضنا؛ لعل المرحلة القادمة أو الاتفاق القادم أو بعد بناء الثقة أو أو أو …… كدأب الأسرى يشبعون أي قضيّة نقاشاً ويكثرون من نسج السيناريوهات التي لا يتحقق دائماً إلا أسوَؤُها بل لا يستطيعون توقعه!

كان الوقع أشد -لا ريب- على أسرى منظمة التحرير الفلسطينية التي وقّع رئيسها الاتفاق، ولاسيما أسرى حركة فتح الذين كانوا الأغلبية الساحقة في السجون في حينه، والذين ما تخيلوا في أسوأ كوابيس اليقظة أن يتم نسيانهم أو تجاهلهم، بل احتقارهم أحياناً!

تجلّت أكثرِ خيبة الأمل بعد أشهر من الحراك والمناشدات والرسائل الشخصية والتنظيمية من الأسرى وذويهم للقيادة من الصفوف الأولى والثانية والثالثة حتى لم يبق أحد لم يسمع، أو لم يوضع ملف الأسرى على مكتبه وجدول أعماله، حتى جاء اتفاق “أوسلو ب” في القاهرة في الرابع من أيار عام 1994، والذي رجا الأسرى أن يكون موضوعهم فيه قد استدرك! وأن الإخفاق فيه سيتم علاجه.

فجاءت الطامّة الكبرى على الأسرى والتي لخصها شمعون بيريس بقوله: (عندما ذهبنا لاتفاق القاهرة كنا نعلم أن الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم قد أثاروا قضيتهم، وأنه لا يمكن توقيع اتفاق لا يشملهم، لذلك جهزنا أنفسنا للتفاوض، وكان معي ثلاثة عروض سنقدمها لهم بالتدريج، فإن لم يقبلوا العرض الأول سنقدم الثاني، وإن رفضوا الثاني سنقدم الثالث الذي كان يشمل الأسرى جميعاً، ولكن بيريس يقول فوجئت بقبولهم العرض الأول).

كان العرض الأول يقضي بالإفراج عن ذوي المحكوميات المنتهية أو التي شارفت على الانتهاء أو أولئك الذين حكموا لفترات اعتقال لا تتجاوز عدة شهور بل والمعتقلين دون محاكمة ولا قضية ولم تشمل أي صاحب محكومية عالية.

احتفلت القيادة الفلسطينية بما وفّره لهم شمعون بيريس من مناسبة فارغة للاحتفال بها كإنجاز وتصوروا مع الباصات وهي تفرغ حمولتها على الحواجز العسكرية في الضفة الغربية وقطاع غزة وإشارات النصر مرفوعة والأعلام الفلسطينية التي حاكها الأسرى من ملابسهم ترفرف من نوافذ الباصات. ولكن الأسرى الذين قاوموا الاحتلال وجدوا أنفسهم مرة أخرى منسيين ينتظرون عدد المساء والتقارير الإعلامية على شاشات التلفزة العبرية بل إن أغلب السجون التي تحوي بين أسوارها أصحاب الأحكام العالية لم يفتح منها بابٌ ولم يخرج منها أسير.

يصعب تخيل هذا الحجم من القهر والألم وخيبة الأمل والشعور بالخيانة والطعن في الظهر من أكثر الأشخاص “قداسةً” عند المناضلين؛ بل إن ذكرهم من دون لقب تكريم كان يشكل سبباً للعقوبة أو الغضب أحياناً من رفاق الدرب والأسر فضلاً عن الذم الذي وصل إلى الشتم.

وتستمر المأساة والمناشدات، ويتم تشكيل لجان وبناء ملف تفاوض جديد، ويبدأ العدو السّادي بالتلذذ بتصنيفات، فقط الذهنية العنصرية الصهيونية يمكنها أن تتفتق عنها في ظل قيادة فلسطينيّةٍ ثملةٍ من روائح الاتفاقيات والحديث عن سلام الشّجعان دون أن تذوق بعد ولا كأساً واحداً!

مضت الاتفاقيات واحدة تلو الأخرى وأصبح ملف الأسرى كملف القدس واللاجئين يتحدث عن تحسين ظروف الأسرى في إطار تحسين ظروف الاحتلال، ولا يجد حلاً بل ولا اهتماماً حتى إن بعض ذوي الأسرى وممثليهم سمع زجر القيادة لهم وهي تحتقرهم وتحشرهم في زاوية الشؤون الاجتماعية كالأرامل والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة.

ثم دخلت القضية إلى دهاليز عملية التسوية الأبدية، وكذلك قضية الأسرى الذين لم تستطع كل الاتفاقيات ولا حتى صفقات التبادل مع المقاومة أن تنهي ملفهم، وها هو إضراب الكرامة بعد عشرات الإضرابات السابقة منذ بداية الاحتلال عام 1967 يضع الملح على هذا الجرح الذي يزيد إيلاما مع صباح كل يوم، ومع إطلالة كل فجر، بينما تستيقظ الأمهات لإعداد أبنائهن للمدرسة، ويصبح كل موظف وعامل وصاحب مصلحةٍ إلى غايته، يصبح الأسرى على عدد الصباح ويستيقظون على مكبرات الصوت اللعينة تنادي الخامسة والنصف صباحاً “سفيراه (عدد)”، والسّجّان اللئيم يطرق الأقفال بالأبواب الحديدية منادياً “سفراه بأغاف” (عدد في القسم).

ليس الأسرى وحدهم فقط الشيءَ الذي ما زال متجاهلاً، والقيادة الفلسطينية تحزم أمتعتها استعداداً للحج إلى البيت الأبيض وتقبيل الرأس الأشقر في ركنه الأسود؛ بل إن آلاف العائلات الفلسطينية لا تنام الليل تستعد لزيارة أبنائها التي تنطلق إليها قبل الفجر بحثاً عن لقاءٍ لدقائق معدودة من وراء الجدران الزجاجية، وقبلاتٍ خجولةٍ تطير من بعيد وهي ترى طيف ابنها يقتاده السجانون من بين سرادق السجن إلى غرفة الزيارات الكئيبة.

بل إن أكثر من ألف أسير يُضربون عن الطعام وعن كل شيءٍ إلا عن كرامتهم مطالبين بلقاءٍ كريمٍ بعائلاتهم واتصالٍ هاتفيٍ بأُسرهم في ظل العولمة التكنولوجية وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا يسمع عنها كريم وماهر يونس المعتقلان منذ عام 1983 إلا من الأخبار ومن حديث بعض الأسرى الجدد، ولا يستطيعون تخيلها.

……
هل سيحمل الرئيس الفلسطيني ملف هؤلاء إلى لقائه المرتقب في البيت الأبيض؟

أم أن المحمول سيكون مزيدا من الإجراءات الحازمة والصارمة ضد (الإرهاب) والذي يشكل الأسرى عنوانه وروحه لدى الاحتلال وحليفه في واشنطن!

فلقاء الرئيس مع جورج بوش الابن قبل سنوات لم يبشر بخير عندما طرح الرئيس ملف الأسرى أثناء مؤتمرٍ صحفي وعلى استحياء؛ فرد عليه بوش قائلاً كيف تتحدث عن إطلاق سراح (إرهابيين) ونحن نجتمع ونناقش كيف نحارب (الإرهاب)!

#إضراب_الكرامة #الحرية_للأسرى #يوم_الأسير_الفلسطيني

…………………..
أسير محرر

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات