البلدة القديمة في الخليل.. مملكة مهجورة بلا حرّاس

على مشارف البيوت العتيقة، لا تكاد تنتهي من صخب السوق المزدحم ذي الجوانب المرصوفة بـ”بسطات” تجار المدينة، ولا تتوقف عن التحديق في سقف السوق الملبد بالأقمشة والبضائع من كل شكل لتحجب ضوء الشمس، حتى تتفاجأ بصمت مطبق كأنه نهاية نفق؛ حيث تتسع الطرق فجأة ويتلاشى الصخب خلفك رويدًا كلما تسارعت خطواتك للأمام.
لم نسمع إلا صوت ارتطام غالق كاميرا طاقم “المركز الفلسطيني للإعلام” بجدار برج عسكري صهيوني.. فوقنا أشياك تملأ سقف المكان، وتعلو الأشياك قمامة، ويعلوها علم الكيان الصهيوني، ذلك الذي كان في الماضي القريب في نقطة أبعد للوراء، ولم ينبئ سوى بتوسع كبير للسيطرة الصهيونية على ماضينا دون أدنى حسيب أو رقيب؛ حيث غدا اليوم أقرب مما كان عليه.
ينتهي الصخب وتكاد الممرات جميعها تخلو من المارة والتجار باستثناء بضع محلات صغيرة لا يكلف التاجر فيها نفسه عناء النداء المتواصل إلا ببضع كلمات لبيع بضاعته المتواضعة التي بالكاد تؤمن قوت يومه.
مضايقات مستمرةتساؤلات عدة حول الوضع الذي يعيشه سكان البلدة القديمة بالخليل وخصوصًا في منطقة العمق الملاصق لمساكن قطعان المستوطنين، لكن الواقع أجاب على بعض من هذه التساؤلات؛ فبالإضافة للمكان المهجور الموجود أعلى أسواق الأزقة القديمة مسقوفًا بالأشياك التي تملؤها القمامة، وبعد سؤال المواطنين قيل لنا إنهم اعتادوا على ذلك المنظر؛ حيث يتعمد المستوطنون إلقاء النفايات من شرف ونوافذ المنازل العالية التي استولوا عليها على رؤوس المواطنين وأصحاب المكان، سواء كانت تلك النفايات قمامة أو حجارة أو مياه مسكوبة، ما حدا بالمواطنين سقف المكان بالأشياك للتخفيف من هذه المعاناة.

null
عشق المكان
أبو محمد (54 عامًا) تاجر من أهل المكان قال لمراسلنا: لم يعد التجار والمواطنون يرغبون بالتسوق أو العمل في هذا المكان جراء مضايقات المستوطنين، والذين يدعمهم الجيش الاحتلالي، فنجد بعض التجار كان حريصًا على مصالح عمله، وبعض المواطنين حريص على نفسه، ومع ضعف التواجد والدعم والمبادرة لإحياء البلدة القديمة استغل المستوطنون الأمر بمزيد من التوسع للاستيلاء على منازلنا وممتلكاتنا”.
وحول سؤالنا عن سبب استمراره كتاجر في هذا المكان بالرغم من أن مساحة متجره لا تتعدى المترين قال: “أنا بإمكاني الاستجابة لكل الإغراءات، ويمكنني أن أكون غنيًّا ومن أكبر التجار، لكني لا أستطيع العيش في ذلك الصخب، ويكفيني هواء هذا المكان المنعش، ويكفيني الماضي والأصالة التي تحيط بي كل يوم وتشعرني بأصلي وموطني وعظم المكانة التي نحن فيها.. ومهما بلغت الاعتداءات والمحاولات فأنا جالس هنا ولا أتزحزح ما دامت الروح في الجسد”.

nullإغلاق شريان الحياة
شارع الشهداء يعد أحد الشوارع الرئيسية وأهمها في البلدة القديمة بالخليل؛ حيث يمثل شريان قلب البلدة وعصب الحياة فيها، أغلقته قوات الاحتلال في وجه المواطنين، وبهذا أغلق قرابة 1800 محل تجاري، وفي وقت لاحق هجر ما يزيد على 1300 أسرة من منازلهم بحجة التضييق على حياة المستوطنين.
اتفاقية الخليل المبرمة مع كيان الاحتلال عام 1997 كانت ذريعة لخلق موطئ قدم للمستوطنين في قلب البلدة القديمة، وسرعان ما انتشرت وتمددت وتوسع معها نطاق الاعتداءات التي لم يختلف ماضيها عن حاضرها، فمجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994على يد الإرهابي المستوطن المتطرف باروخ غولدشتاين خير دليل على النهج والسياسة الصهيونية الثابتة تجاه الفلسطينيين أصحاب الأرض.
وتحيط بالبلدة القديمة حاليًّا -حسب خطة الاحتلال- أربع مستوطنات تجعل السكان الفلسطينيين في قلب العاصفة، وهذه المستوطنات هي تل الرميدة، وبيت هداسا، وبيت إبراهيم، وبيت رومانو، إضافة إلى 27 بؤرة ومستوطنة في البلدة القديمة ومحيط المدينة التي تجعل أكثر من نصف مليون فلسطيني رهائن أقلية لا تتجاوز الـ 30 ألفًا من المستوطنين.

nullقطعة مهجورة
ثم أكملنا طريقنا حتى اصطدمنا بواقع البوابات والأشياك وأصوات اللاسلكي الخاص بالجنود المتمترسين خلف الثكنات التي تملأ البلدة؛ حيث لا يدخل الأماكن التي استولى عليها إلا حملة الهوية الزرقاء وأصحاب الجنسية “الإسرائيلية” بعد التنسيق والموافقة من قائد المنطقة العسكري.
ولا تزال الاعتداءات ماثلة حتى يومنا كامتداد طبيعي للماضي، ولا تزال رائحة الموت تلوح عند كل زقاق وبوابة وشارع؛ فقد شهدت البلدة ارتقاء كثير من الشهداء، وتصفية لمواطنين عزّل في أماكن عدة فيها، لتبقى البلدة القديمة في الخليل جرح ماض فلسطيني أصيل، وقطعة من الروح مهجورة بلا حرّاس، اللهم إلا هؤلاء القابضين على الجمر من أهل المكان.

null
null
null