باسل الأعرج.. درس في التاريخ

لو نبتعد قليلاً عن المعنى المكرّر للبطولة، ونترك التفجع الذي لا مصدر واحدا له في نفوس المتفجعين، بل مصادر كثيرة ليست كلها آتية من مطارح شفافة، ونغلق خيم العزاء والتبريكات، بكل ما تحمله من معانٍ دينيةٍ في مديح الموت، ونتأمل، ولو قليلاً، رواية حياة باسل الأعرج ومقتله، في سياق التراجيديا الفلسطينية الراهنة، والمعاني المتجددة للبطولة.
لم يذهب باسل الأعرج إلى العدو ليواجهه؛ بل جاء إليه العدو، بحث عنه الجنود مدججين بسلاحهم ومخابراتهم وعملائهم، ليتمكنوا من الانتصار عليه، والتخلص ليس من جسده، بل مما مثله في رواية حياته حول الصراع الأبدي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
لم يشأ باسل أن يكون بطلاً أسطورياً، يذهب إلى حتفه المحتوم بإرادته في مواجهةٍ خاسرةٍ مع عدو متفوق في كل شيء، إلّا في روايته عن المكان، ولكن باسل كان يشقّ درباً للبطولة، لا البطولة نفسها. كان كمن يرصف الدرب حصاةً حصاةً، وحجراً حجراً، وكان يتعثر هنا أو هناك، لكنه كان عازماً على توضيح معالم الدرب على طريقته الجديدة. وكان ذلك كله يخيف الإسرائيليين؛ لأن ما كان يصنعه هذا الشاب يزعزع أصل روايتهم عن المكان والتاريخ.
في السنوات القليلة التي عاشها من عمره القصير، كان باسل الأعرج في مواجهةٍ مع جوهر الفكرة الصهيونية، وتمثلاتها اللاهوتية عن فلسطين، منذ عشرات السنين، وخطابها السياسي عن اللحظة المعاصرة حول من يمتلك المكان في علاقته بالتاريخ، قبل تأسيس الدولة، وصراع أصحاب المكان مع المراحل الاستعمارية التي عاشوها.
هكذا كان مسار الأعرج، يلتف عليه جمع من الشباب والفتيات، ويجول في قرى فلسطين ومدنها، يحدثهم مثل حكواتي محترفٍ عن تاريخ كل مطرح من هذه المطارح، ونضال أهله ضد المستعمر البريطاني، أو العصابات اليهودية التي أسست لدولة “إسرائيل”.
كان يريد من حكاياته أن يلقي ضوءًا في نفوس هؤلاء، يرون فيه أرضهم نابضةً برفض الظلم والخنوع واليأس السائد. وبسبب هذا كله، خافه الإسرائيليون، وهو لم يكن عضواً في تنظيم، ولا في خلية قتالية، ولا في كتائب أو فصائل. هو مبدعٌ أبدع حكايته عن حكاية التاريخ الحقيقي، وأبدع وسيلته لإحياء الشرايين النابضة في الحكاية، في ظل تلف الممثلين السياسيين لشعبه، إن كانوا في السلطة أو الفصائل المجعجعة بخطاب عافه الدهر، من شدة تحجّره وتكلس مفاهيمه.
هذه هي بطولة باسل الأعرج في لحظة اليأس والضياع الفلسطيني، وانسداد كل آفاق تقود إلى حق هذا الشعب في العيش بحرية واستقلال. بطولته في دربه، والآخرون يريدونها مقتصرةً على مواجهة العدو بمعركة عسكرية غير متكافئة.
هناك اليوم في فلسطين تجارب مختلفة، تعبّد دروب البطولة للأجيال المقبلة، في مواجهة الرواية الإسرائيلية. وعلى سبيل المثال، ليس ماراثون فلسطين “اركضوا للحرية” في الضفة الغربية ماراثوناً رياضياً وحسب؛ بل هو تجربة لمعرفة الأرض، وإيجاد علاقة حميمة وواقعية مع القرى والطرقات في الجبال والسهول، بعد أن كادت فلسطين، بأرضها، تصير صورة ميتة في قصائد الشعراء، وأغنية مملة للفصائل.
يطرح مقتل باسل الأعرج، بهذه الطريقة الوحشية من قوات الاحتلال، عليناً سؤال حماية هذا الدرب، ورعايته، والدفاع عن صانعه، وهو الذي قُتل في قلب رام الله، وبين شعبه في المنطقة “أ” التي -بحسب اتفاقيات أوسلو- تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، لكن الأخيرة لم تحرك ساكناً، ولا الناس الذين يعيش بينهم باسل حرّكوا ساكناً، وكأن هذا الفرد الذي أبدع طريقته في المواجهة عاش ومات وحيداً.
ويحق لنا أن نتساءل عن الواقع الشعبي الفلسطيني، ومدى استفادته من دروس الأعرج في التاريخ، وليس عن السلطة التي لم تعد المواجهة تعني لها غير مفاوضاتٍ تنتظر أن يتكرّم بها العدو المحتل، ليمدها بأسباب حياةٍ لا حياة فيها.
المصدر: العربي الجديد
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس: العدوان على اليمن جريمة حرب وإرهاب دولة ممنهج
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام دانت تدين حركة "حماس" بأشدّ العبارات العدوان الاسرائيلي على اليمن، والذي نفّذته طائرات جيش الاحتلال، واستهدف مواقع...

تحذيرات من انهيار كامل لمستشفيات غزة خلال 48 ساعة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اليوم الإثنين، من أن مستشفيات القطاع على شفا الانهيار خلال 48 ساعة بفعل منع...

غوتيريش: توسيع إسرائيل هجماتها بغزة سيؤدي لمزيد من الموت والدمار
نيويورك – المركز الفلسطيني للإعلام قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن خطة إسرائيل لتوسيع هجماتها على غزة ستؤدي إلى مزيد من الموت...

غارات إسرائيلية تستهدف اليمن
صنعاء- المركز الفلسطيني للإعلام شنت طائرات حربية إسرائيلية، مساء الإثنين، غارات عنيفة استهدفت مناطق واسعة في اليمن. وذكرت القناة 12...

9 شهداء بغارتين إسرائيليتين في مخيم النصيرات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 9 شهداء على الأقل، وأصيب عدد كبير من المواطنين بجروح، الإثنين، جراء غارتين شنتهما مسيّرات إسرائيلية، على منطقة...

صحة غزة: حصيلة حرب الإبادة ترتفع إلى 52,576 شهيدًا
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أفادت زارة الصحة بقطاع غزة، بأن 32 شهيدًا منهم 9 انتشال، و119 إصابة وصلت مستشفيات القطاع خلال الـ24 ساعة الماضية....

مستوطنون يحرقون محاصيل قمح في سهل برقة بنابلس
نابلس – المركز الفلسطيني للإعلام أحرق مستوطنون متطرفون، مساء اليوم الاثنين، على إحراق أراضٍ زراعية مزروعة بالقمح في سهل برقة شمال غرب مدينة نابلس...