الثلاثاء 06/مايو/2025

لا تدعو الزوار إلى متحف الشهيد ياسر عرفات

بثينة حمدان

السطر الأعمق والأوضح في حكايتنا؛ التحرر، رأس الثوابت، انتصار المساجد والكنائس، معاني الأبوة والبنوة للمكان، هو فلسطين، نعم هو الشهيد الرئيس أبو عمار الخالد في كل ما قال: “عالقُدس رايحين شُهداء بالملايين”. القدس التي ولد وعاش فيها، وزارها مغامرة في خِضم العمليات الفدائية التي كان يقودها ضد الاحتلال الإسرائيلي، فمرّ مِن باب البيت فيما يقف أخاه، لم يتبادلا حتى السلام كي لا ينكشف أمره. من هذه الكلمات الثائرة… جاءت قسوة العنوان:

اصطحبتُ طلبةَ الإعلام في جامعة القدس المفتوحة إلى المتحف، توقعنا رؤية المقتنيات الشخصية للرئيس، فإذا بحكاية شعب خاض حربَ التحرير منذ زمن بعيد يسبقُ وعد بِلفور، وكما قال لي مدير المتحف محمد حلايقة: “هو ليس رئيسا فقط بل قائد العمل الوطني”.

استمعنا إلى الحكاية، توقفنا عند شاشات العرض، تنقلنا بين واحد وثلاثين محطة، بدءاً من التعرف على 870 قرية وتجمع فلسطيني، وقيادات وطنية، وشهداء الثورة، والحروب التي مرّت علينا، وصولاً إلى حصارِه واستشهادِه عام 2004. تجولنا إلى أن توقفت عند صورة منزل جد الرئيس، وبجانبها كُتِبَ حرفياً: “منزل سليم خليل أبو السعود (جد ياسر عرفات) في الزاوية الفخرية… ويظهر في الصورة حائط البراق (حائط المبكى) على الجهة اليسرى…”. لقد عرّفت هذه الفقرة على اسم أبو السعود بأنه الجد وذلك بين قوسين، وعلى حائط البراق بأنه المبكى أيضاً بين قوسين، وفي الترجمة الإنجليزية للنص كُتِبَ التوضيح بأل التعريف (The wailing wall)!


استخدام التسمية العبرية لحائط البراق في المتحف

 
هكذا عرّف المتحف الفلسطيني بحائط البراق، الحائط الذي استخدمته “إسرائيل” في ذبح الوطن وتقطّيعه ومن ثم سلبه واحتلاله بروايتهم اليهودية المزعومة عن الحائط والهيكل، بينما لم تذكر المتاحف الإسرائيلية حائط البراق ولا بأي شكل، وحين تتحدث عن الحرم الإبراهيمي مثلاً لا تقول إلا أنه معبد يهودي خالص!

وبدافعٍ وطني اتصلت بالدكتور ناصر القدوة ابن شقيقة الرئيس الشهيد عرفات، رئيس مؤسسة ياسر عرفات وعضو مركزية حركة فتح، لأنقل له ملاحظتي لعله خطأٌ غير مقصود، فكان الرد قاطعاً بأن الأقواس تعني عدم الاعتراف، ثم شكراً وأكد أنني ضمن أجواء حرية التعبير أستطيع الكتابة عن الأمر كما يحلو لي…

لا أدري عن أي أقواس يتحدث، هل هي أقواس الانغلاق أم الانفتاح، النبوءة أم الخطيئة!!

الدكتور القدوة هو الأب الروحي لنصوص المتحف التي كُتِبَت تحت عنوان “حكاية المائة عام”، وبإشراف لجنة لصياغة المحتوى برئاسة الدكتور نبيل قسيس وتضم باحثين وأكاديميين وفنانين، هذا ما أخبرني به محمد حلايقة والذي اعتبر استخدام مصطلحات يهودية مثل “حائط المبكى” يأتي: “من باب التوازن، وعدم تمثيل وجهة نظر بأي اتجاه مع أي طرف، حاولنا الأخذ بوجهة النظر الموثقة والمعززة، لا توجد معلومة مشكوك فيها، أو فيها نوع من الشخصنة”. وتابع وسط دهشتي: “هو رواية معتمدة على معطيات موثقة فلا نستطيع القول حائط البراق فقط أو حائط المبكى فقط”.

نعم أصبت يا عزيزي حلايقة فالأمر ليس شخصياً بل وطنياً مليون بالمائة، وهذا الشك زرعَتهُ الرواية اليهودية في أذهان العالم لتُثبِت حقها في فلسطين، واستطاعت زرعه لدى أصحاب النفوس الفلسطينية “الضعيفة”!

وقال حلايقة أيضاً: “هذا المتحف يتضمن الرواية الفلسطينية، والكثير منا يقول حائط المبكى، وهذا ينطبق على من يقول: إسرائيل، كم واحد يقول اليوم حائط البراق؟؟”. وأكد: “لا نستطيع نفي الوجود اليهودي في القدس، ومتفق عليه أن فيها إرث إسلامي ومسيحي ويهودي.. لكن ليس بالمعنى السياسي، هناك عشرات وجهات النظر، ووجود رابط ديني لا يعني حقا سياسيا، لا يجب تسييس البعد الديني”. 

إلى إدارة المتحف أقول بين قوسين كبيرين: (القضية لا تحتمل وجهات نظر، وشعارات عرفات بشأن القدس واضحة، وكتابة التاريخ في متحف وطني لا يعتمد على ما يردده الناس، الذين لو سُئلوا سيقولون بأنه حائط البراق، فهل يريد المتحف ترسيخ الأقاويل؟ أم الرواية الإسرائيلية؟ أم يُفتَرَض به تعليم أبنائنا التاريخ الفلسطيني؟ هذا عن ترديد مصطلح “إسرائيل” نابع عن وجود اعتراف بدولتهم، بينما لا يوجد اعتراف بما يُطلِقُ عليه الإسرائيليون المبكى؟؟؟).

وأوضح حلايقة مدير المتحف أن وضع حائط المبكى بين قوسين يعني أن الجملة (Controversial) أي جدلية (أعزائي القراء: المتحف الموجود قرب ضريح الشهيد عرفات وعلى مسافة خطوات من مكتب الرئيس محمود عباس، وعلى أرض مصنفة (أ) ما يزال يعيش الجدل مع نفسه: فهل الحائط فلسطيني أم إسرائيلي، هل هو براق أم مبكى!!).

لقد وردت جملة “حائط المبكى” أربع مرات أخرى في نص المتحف المعلّق على الجدران والمكون من 11500 كلمة، مرفقاً بالصور، على النحو التالي:

-“تنظم مجموعات من الصهاينة المتشددين أول تظاهرة سياسية عند حائط البراق (حائط المبكى) في15 آب/ أُغسطس 1929 ذكرى خراب الهيكل حسب التقويم اليهودي..”

-“توصي اللجنة الدولية لحائط البراق (المبكى) في كانون الأول / ديسمبر 1930 بإعادة الوضع القائم كما كان عليه في السابق، وتؤكد حقوق الملكية الإسلامية في حائط البراق (حائط المبكى)”.

وأخيراً هذه تساؤلاتي عن النص المعروض في المتحف:

لقد قالتها اليونسكو: “القدس تراث إسلامي خالص”، وقالتها اللجنة الدولية لحائط البراق في الثلاثينات بأن ملكيتها إسلامية، فلماذا يُشَكك المتحف بذلك؟ 

لماذا تكون الصيغة مجهولة ومتأرجحة عندما يرد في نص المتحف: “1929 تَحدُث ما اصطلح على تسميته ثورة البراق”؟

لماذا كُتِبَت صيغةُ النص بالفعل المضارع: “يولد عرفات..”، هل هو مترجم عن الإنجليزية ؟؟

ولماذا اختُتِم النص بمرض عرفات ورحيله إلى فرنسا للعلاج ثم وفاته! وكأنها وفاة طبيعية، وعرض -على استحياء- تقارير اللجان الطبية عن مرض الشهيد، بل وتقف المرشدة السياحية في المتحف لتقول لطلبة المدارس بسطحية: “هذه غرفة عرفات، وتلك غرفة الحرس وهذه هي التقارير الطبية عن أسباب الوفاة”، ثم تنقلهم بسرعة إلى المحطة التالية.. وهم لا يجيدون قراءة التقارير، وإن قرؤوها لن يفهموها، فيها سطر واحد يشير إلى مادة البولونيوم السامة، ومع ذلك قال المتحف: توفي عرفات وليس استُشهِدَ أو قُتِلَ!

برافو هكذا نُعرّف الجيل القادم على سيرةِ الراحل و”موتِه الرحيم”، بقي أن تُغيّر إدارة المتحف من غرفة الرئيس الصغيرة وغرفة الحرس الملاصقة، تزيل البراميل الرملية وتقول إن موتَه كان هادئاً مثله!!

لذلك كله أقول: لا تدعو الزوار إلى متحف الشهيد ياسر عرفات قبل أن يكون فلسطينياً خالصاً، بِكَلِمات لا لُبسَ فيها، بلا تشويه، فنحن نعيش في حرب على النص والتاريخ أولاً وعاشراً، بلا أقواس أو توضيحات “احتلالية”!!!

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات