المحكمة الدستورية ومجتمع الكراهية

السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، والعبث بالدستور والقوانين الأساسية للأمم، مضافا إلى الصراع السياسي على السلطة والثروة بين النخب ومراكز القوى، أشد فسادا وتمزيقا للنسيج الاجتماعي وأعظم فتكا من أسلحة الدمار الشامل في حاضر المجتمع ومستقبله.
فالنظم الديموقراطية التي تحترم إرادة الشعوب، تكون الدساتير والمواثيق الوطنية والقوانين الأساسية فيها لصالح المجتمع أولا وأخيرا، معبرة عن تنوعه وتعدديته، والتعديلات الدستورية فيها تجرى لترسيخ المزيد من الحقوق الجمعية والفردية، ولتعميق السلوك الديموقراطي في المجتمع، وتنحاز تاويلات القضاء الدستوري دائما لصالح المزيد من الديموقراطية، وترسيخ القانون وتحصين إرادة المجتمع واحترامها.
أما في الدول التي تدفع للانفراد بالسلطة أثمانا باهظة، فإن الدساتير وتعديلاتها، والقرارات ومراسيمها والمحاكم الصورية وتأويلاتها، لا تضخ إلا مزيدا من الاستبداد واحتكار السلطات في شرايين النظام الحاكم. وتشكل وسيلة من وسائل النظام لحسم معركة الصراع السياسي إلى جانب احتكار العنف والتغلب، فلا تزيد مكونات المجتمع بذلك إلا احتقانا وتمزقا، ولا تنجح مثل هذه السياسات المأزومة إلا في صناعة مجتمع الكراهية وتفريخ المزيد من العلل للأمة، فالاستبداد سرطان الأمم.
وعليه فإننا إذا تأملنا المشهد القضائي والسياسي الفلسطيني الراهن بعد صدور قرارات المحكمة الدستورية، المشكلة بطريقة تفتقر لروح الوئام والتوافق، فإننا نستخلص ما يلي:
أولا: إن إقحام القضاء العالي، الدستورية والعليا، رغم عمرهما القصير، في لعبة الاستقواء والصراع السياسي الداخلي، سواء بين الفصائل أو في داخل الفصيل الحاكم، قد أخرج القضاء عن مهمته ووظيفته في مرحلة التحرر، وأدخل البلاد في انقسام سياسي جديد، وجدل قانوني ودستوري لا يقل خطورة عن الانقسام الحاصل منذ عشر سنوات بين قطبي المجتمع الفلسطيني. في حين أن القضاء الدستوري وجد من أجل إعادة روح الوئام عند حدوث الاختلافات التي تعجز النخب السياسية عن حلها، ويكون حكمها حاسما، ويتلقى الجميع الحكم بالرضى والقبول، وهذا ما لم يحدث في الحالة الفلسطينية.
ثانيا: إن الجدل الفلسطيني الداخلي قد تجاوز الانقسام حول شرعية القرارات إلى الانقسام حول شرعية المحكمة الدستورية ذاتها، وهذا بحد ذاته يضعف السلطة القضائية ويزيد من حالة الاستقطاب في الساحة الفلسطينية، في ظرف لم يتعلم فيه النظام الفلسطيني الحاكم من التجربة التونسية الجامعة القائمة على قاعدة التعاون والشراكة وأن الوطن للجميع، وانحازت إلى النموذج العربي البائس الذي استقوت فيه النخبة بكل أدوات الحكم والتحكم، فخسرت نفسها وحكمت بمنطق الاستقواء، والتغلب وأدخلت المجتمع في أزمات لاحصر لها.
ثالثا: قد يقول قائل: إن هذه القرارات القضائية صدرت في سياق صراعات وتجنح داخل الحزب الحاكم المسيطر على السلطة ومنظمة التحرير، لحسم مصير قضية نائب بعينه ولا دخل لها بالعلاقة مع القوى والفصائل الأخرى، وهذا المنطق غير سليم البتة؛ لأن منطوق القرار يمنح الرئيس سلطات لا حد لها في التصرف ببنية السلطة التشريعية وحلها أو رفع الحصانة عن أي عضو أو تجمع أعضاء في المجلس التشريعي لا يروق له لسبب أو لآخر، مما يؤسس لعلاقة مستقبلية غير متكافئة وغير مستقرة بين السلطات، تتغول فيها السلطة التنفيذية على سائر السلطات التشريعية والقضائية، ويقضى على المبدأ الدستوري القائم على الفصل بين السلطات الثلاث.
وهذا ما ترفضه مجمل القوى السياسية والمجتمعية والنقابية وسائر مؤسسات المجتمع المدني في المجتمع الفلسطيني. لهذا اتسمت ردود الفعل من مختلف الأطراف باستثناء النخبة الحاكمة على قرارات المحكمة بالحدة والرفض.
رابعا: إن هذه السابقة القضائية تؤسس لمنح الرئيس سلطة تقديرية، لم يمنحها له القانون الأساسي، بحل المجلس التشريعي، استنادا إلى الوضع الاستثنائي الذي يشكل السمة العامة للحالة الفلسطينية، ليصبح بذلك مصير السلطة التشريعية في يد الرئيس، الأمر الذي يعتبر انتكاسة وطنية عن إنجاز دستوري تحقق في القانون الأساسي الفلسطيني المقر عام 2003 والذي صادق عليه المجلس التشريعي الأول والرئيس الراحل ياسر عرفات.
وعليه نقول: إن كان القرار القضائي للمحكمة الدستورية قد أنهى أزمة داخلية في حركة فتح شكليا، وحسم مصير النائب محمد دحلان ورفع عنه الحصانة وانتصر للرئيس عباس، لكن القرار قد جمع السلطات والصلاحيات جميعا في يد الرئيس، التنفيذية والتشريعية بطريقة مباشرة، والسلطة القضائية بطريقة غير مباشرة، وفتح الباب على مصراعية أمام أزمات في النظام السياسي الفلسطيني مستقبلا لا تقل خطورة عن الانقسام الحاد بين شطري الوطن.
وقديما قال الحكماء: السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

استشهاد شاب برصاص الاحتلال في بيتا جنوب نابلس
نابلس - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد الشاب علاء شوكد أحمد اخضير، مساء اليوم الخميس، إثر إصابته برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحامها بلدة...

القسام يعلن عن كمين محكم لقوات الاحتلال في رفح
رفح - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، الخميس، مسؤوليتها عن تنفيذ عملية مركبة ضد قوات الاحتلال الصهيوني في...

مجزرة هدم جديدة.. الاحتلال يخطر بهدم أكثر من 100 مبنى في مخيمي طولكرم ونورشمس
طولكرم – المركز الفلسطيني للإعلام أخطر جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، بهدم عشرات المنازل في مخيمي طولكرم ونور شمس في طولكرم بالضفة الغربية...

91% من سكان غزة يعانون أزمة غذائية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة منير البرش، اليوم الخميس، أن 91% من سكان القطاع يعانون من "أزمة غذائية"...

مستوطنون ينصبون خياماً استيطانية جديدة على أراضي سنجل شمال رام الله
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلامأقام المستوطنون اليوم الخميس، خيمة استيطانية جديدة على أراضي المواطنين في بلدة سنجل شمال رام الله. وقال أهالي...

تحذير من قتل ممنهج يتعرض له الأسير حسن سلامة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذر مكتب إعلام الأسرى من تعرض الأسير القيادي في حركة حماس حسن سلامة لتعذيب ممنهج في سجن مجدو الإسرائيلي، بهدف القتل....

3 شهداء بغارة إسرائيلية استهدفت سيارة في جنوبي لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد ثلاث أشخاص، اليوم الخميس، في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة في بلدة ميس الجبل جنوبي لبنان. وأفادت وكالة...