السبت 06/يوليو/2024

القدس بين قرار اليونسكو وما يجري في الواقع

ناصر عيسى هدمي

لست خبيرا بما يسميه الناس بالحيز الافتراضي ولا ببحار هذا الحيز التي أضحت تسيطر على حياة الكثيرين منا، ليس فقط في المجتمع الفلسطيني أو العالم العربي؛ بل أصبحت تسيطر تقريبا على كافة مجتمعات العالم، فقد ظهرت قيادات للمجتمعات سياسية واجتماعية وتحركت ثورات وأزيحت أنظمة وحكومات بفعل هذه البحار وما تنتجه من تسونامي جارف في الحيز الافتراضي. صحيح أنه قد يكون هذا العالم الافتراضي قد أثر على عالمنا الواقعي وغير الكثير من ملامحه ولكن تبقى القضية المؤثرة أكثر أن هذا الواقع يستطيع أن يدخله من شاء إن توفر لديه جهاز حاسوب أو حتى هاتف نقال، ويستطيع أن يدعي ما يشاء دون أن يكون هناك آلية تثبت ما يقول أو تنفي.

سبب هذه المقدمة الغريبة هو أنني أرى أن كافة قرارات الأمم المتحدة ومؤسساتها المنبثقة عنها وربما أيضا قرارات العديد من المؤسسات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان تنتمى للواقع الافتراضي ولا تنتمي إلى الواقع الحقيقي الموجود على الأرض وتُختزن على الجدول الزمني الافتراضي للمعنيين ويكون مثلها كمثل أي منشور ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، يتم يعجب بها أو لا، وتتم مشاركتها أو إهمالها من كل من له إذن اطلاع على هذه المنشورات.

ماذا يعني قرار اليونسكو، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة الخاص بالقدس والمسجد الأقصى؟ في البداية لا بد من العلم أن الجهة التي صاغت نص القرار هي نفسها الجهة التي قدمت القرار للتصويت، وهي المجموعة العربية المكونة من فلسطين، الأردن، الجزائر، مصر، لبنان، المغرب، عمان، قطر، السودان، مما يفسر اهتمام القرار بذكر المسجد الأقصى والحرم الشريف وحائط البراق وعدم ذكر المسميات العبرية لهذه الأماكن، كذلك حرص القرار على تسمية “إسرائيل” بالدولة المحتلة للدلالة على تعديها وتغييرها للواقع على الأرض في القدس والمسجد الأقصى، كل هذه الأمور اعتبرها المحللون نقاط قوة في القرار إضافة طبعا إلى جوهر القرار الذي انتهى إلى أن هذه الأماكن هي أماكن من التراث الثقافي الفلسطيني الواجب الحفاظ عليها ومنع المساس بها تغييرا أو هدما أو تعريضا للفناء. ولم يذكر القرار أو ينف صلة اليهود بهذه الأماكن بل قال إن مدينة القدس بأسوارها هي مدينة مهمة ومقدسة للديانات السماوية الثلاث. ولست هنا بصدد الوقوف عند كل نقطة من نقاط القرار الذي كما أسلفت صيغ صياغة جيدة واهتم بترسيخ المسميات العربية والإسلامية للقدس والمسجد الأقصى بكل أجزائه بما فيها حائط البراق وساحته. ولكني أريد أن أخرج من هذا الواقع الافتراضي والذي عشنا فيه عقودا طويلة نبدي فيه إعجابنا أو غضبنا وسخطنا ويكون مصيره كما أسلفت الجدول الزمني الخاص بمنشوراتنا وتفاعلاتنا. 

لقد كانت ردة فعل الاحتلال على هذا القرار ردا سريعا وقاسيا اتسم بالأفعال أكثر من الأقوال فعلق الاحتلال تعاونه مع هذه المؤسسة “الظالمة والمنحازة” وقرر القيام بإجراءات على أرض الواقع أولها تكثيف التواجد اليهودي في حائط البراق واقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه من المئات من “المصلين” اليهود بغية إظهار أهمية هذا المكان للديانة اليهودية وأحقية اليهود في الدخول إليه. ثاني هذه القرارات كان في محاولة  إظهار السيطرة الكاملة على القدس ومقدساتها عبر ملئها بآلاف من جنود الاحتلال وأفراد شرطته لفرض الأمن والنظام لكل من يود زيارة المدينة أو حائطها الغربي من “الشعب المختار” دون أي اكتراث لحياة أولئك الذين عاشوا ويعيشون في المدينة قبل احتلالها من هذا “الشعب المختار” وإغلاق المحاور الرئيسة في المدينة وقتل الحياة التجارية التي لا تنسجم مع يهودية هذه المدينة.

نعم، لقد كان قرارا تاريخيا أن اعتبرت منظمة اليونسكو القدس والمسجد الأقصى جزءًا من التراث الفلسطيني الذي يجب الحفاظ عليه ومنع السلطة المحتلة من القيام بتغييرات عليه أو المساس به وتدميره، ولكن من أجل أن يكون هذا القرار جزءًا من الواقع الحقيقي، وليس الافتراضي، ويكون له تأثيره على ما نعيشه لا ما نتخيله يجب أولا أن نتحرر نحن وإرادتنا من الواقع الافتراضي باتجاه الواقع الحقيقي وأن نترجم رغباتنا وحقوقنا إلى أفعال وإجراءات لا أن تبقى ضمن الجدول الزمني لمنشوراتنا.

لقد بنى الاحتلال روايته التاريخية بحقه في الوجود على أرض فلسطين ومنها القدس ومسجدها على ادعاءات صاغها جيش كبير من المؤرخين الذين باعوا علمهم وموضوعيتهم من أجل دعم دولة مزعومة قامت على القوة والقتل والتشريد. لقد قالها رئيس وزراء هذه الدولة الأول دافيد بن غوريون لهؤلاء العلماء “لقد أنشأنا لكم دولة، فلتنشؤوا لها تاريخا”. فكانت صياغة التاريخ اليهودي بما ينسجم مع مصالح هذه الدولة لا بما يوجد من حقائق.

 رغم  كل الحفريات التي قام بها الاحتلال في المنطقة المحاذية للمسجد الأقصى وتحته وكل محاولاته واستماتته في العثور على أي دليل يثبت وجوده في القدس أو وجود هيكل مزعوم مكان مسجدها، إلا أن محاولاته باءت بالفشل ولم يستطع أن يقنع أحدا من علماء التاريخ والآثار الموضوعيين في العالم بروايته الموهومة أو أن يبرر سرقته للأرض واعتدائه على الحقوق والمقدسات. ولكن ما استطاع أن يفعله كان أقوى من كل الروايات ففرض إرادته على أرض الواقع وسيطر واستولى على ما شاء وها هو يفصح ولا يلمح بأطماعه تجاه المسجد الأقصى بعد أن هود مدينة القدس وها هو يعد العُدد ويجهز المخططات لهيكل أسطوري تروي أسطورته أنه كان مكان المسجد الأقصى، فهل تنتصر الأسطورة على الحقيقة؟ وهل ينتصر الوهم على الحق؟ 

إن أية حقيقة حتى يتقبلها الناس يجب أن تكون أمرا واقعا، يدافع عنها من يؤمن بها وينتصر لها، وحتى يستفيد المسجد الأقصى من قرار اليونسكو سالف الذكر لا بد من خطوات عملية تدعمه وتنقله من الواقع الافتراضي إلى الواقع الحقيقي، ولا يكون ذلك إلا بحملة عالمية تثير المؤسسات الدولية وتدحض الرواية الإسرائيلية وتجرم كافة إجراءات الاحتلال وتدخلاته بالمسجد الأقصى وتعيد السيطرة الإسلامية عليه، وتفتح الطريق لكل مسلم يريد الصلاة فيه دون الحاجة لإذن محتل مجرم يطمع بهدمه وبناء هيكل أسطوري مكانه. لا بد من صياغة رواية إسلامية عربية واحدة حول القدس والمسجد الأقصى في مواجهة الرواية الصهيونية الكاذبة، تكون مبنية على الحقائق والروايات التاريخية الصحيحة والموجودات الواضحة تُنشر في كل بقاع الدنيا وبلغات العالم؛ حتى يعلم هذا العالم حقيقة الاحتلال الصهيوني المجرم وحقيقة أكاذيبه وتعديه على أرض الشعب الفلسطيني ومقدساته.

بعد هذا كله يمكن أن نقول أن قرار الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة هو قرار في الاتجاه الصحيح وقدم للقضية الفلسطينية وجوهرها القدس والمسجد الأقصى المبارك.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الفصائل ترفض أي خطط لنشر قوات دولية في غزة

الفصائل ترفض أي خطط لنشر قوات دولية في غزة

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أكدت فصائل العمل الوطني والإسلامي رفضها الشديد لأي تصريحات أو خطط تدعم نشر أي قوات دولية في قطاع غزة. وطالبت الفصائل...