الإثنين 05/أغسطس/2024

الولايات المتحدة: من حدود سايكس بيكو إلى جدران الدم (العراق نموذجاً)

محسن صالح

الذين يرون أن الولايات المتحدة تنسحب تدريجياً من المنطقة (خصوصاً المشرق العربي) مخطئون، والذين يسوقون باراك أوباما وسياسته في المنطقة كـ”بطة عرجاء“ يجانبهم الصواب، والذين يصفون السياسة الأمريكية في المنطقة بالضعف والترهل، يبدو أنهم استعجلوا في استنتاجاتهم غير الصحيحة.

ما تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة لا يعبِّر بالضرورة عن فشل أو عجز أو ارتباك؛ وإن قراءة متأنية للسياسة الأمريكية وعملية صناعة القرار فيها، تشير إلى أن المصالح العليا لم تختلف، وتوجيه مسار الأحداث الكلية بما يخدم السياسة الأمريكية لم يختلف، وأن محصلة تدخّل القوى الأخرى (بمن فيها الروس)… لا تبعد في النهاية عن الصبِّ في ”الطاحونة الأمريكية“!!

كل ما فعله أوباما هو أنه غيَّر أسلوب التعامل الأمريكي مع المنطقة من أسلوب التدخل الغليظ الدموي المباشر والمكلِّف إلى تحقيق المصالح نفسها من خلال أدوات القوة الناعمة، وبتكاليف أقل، وربما بنتائج أفضل… وهو ما حاول تنفيذه من خلال ”الإدارة الذكية للنزاع أو للصراع“ أو بالإنجليزية Smart Management of Crisis.

والملاحظة الثانية أن بعض الذين يتهمون أمريكا بالضعف والتردد يحاكمونها على أساس أنها القوة العظمى التي من واجبها أن تفرض الأمن والاستقرار ”في مناطق نفوذها” التقليدية. ولكن، مَنْ قال إن أمريكا في هذه المرحلة معنية بتحقيق الاستقرار، وفي المشرق العربي، وخصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة أو الكيان الصهيوني؟!… (العراق، وسورية، ومصر…). وإذا كانت أمريكا تريد تحقيق شكل من أشكال الاستقرار، فليس بالضرورة ما تريده هو استقرار يخدم تطلعات أهل المنطقة وشعوبها في الحرية والنهضة والتنمية؛ وإنما تريد استقراراً مبنياً على خدمة مصالحها، حتى لو كان قائماً على معادلات هشَّة طائفية وعرقية، أو أنظمة قمعية، أو أنظمة تابعة تدور في الفلك الأمريكي الغربي.

هذا المقال يركز فقط على العراق نموذجاً (ويتبعه مقال ثانٍ حول السياسة الأمريكية في سورية)، ويحاول أن يحدد حقيقة المنظور الأمريكي وممارساته تجاهها… وهو يرى أن أمريكا جاءت بعد نحو مائة عام على سايكس بيكو لتختط حدوداً ليست على الخرائط، وإنما حدوداً ترتفع فيها جدران الكراهية والدم، في مأساة وملهاة يشارك أبناء المنطقة أنفسهم في صناعتها!!

المصالح القومية الأمريكية:

تركز الاستراتيجية الأمريكية الدولية على المحافظة على الهيمنة الأمريكية على العالم، والبقاء كقوة عظمى وحيدة لأطول فترة ممكنة (عسكرياً، واقتصادياً، وعلمياً وتكنولوجياً…)؛ وإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً للمصالح الأمريكية. وهي بشكل عام استراتيجية تتميز ببراجماتية ومرونة عالية، وقدرة كبيرة على التكيف.

وضمن هذه الاستراتيجية، وبعيداً عن الاستغراق في تصنيفات ومدارس السياسة الخارجية الأمريكية (انعزالية، وليبرالية، ومحافظة… بدرجاتها وتداخلاتها المختلفة)، فإن ثمة خطين رئيسين يتنازعان هذه السياسة؛ الأول يعطي وزناً أكبر للأمن والقوة، ويعد نفسه ممثلاً لقيم الحرية، ويميل لفاعلية أكبر في التدخل المباشر في النزاعات الخارجية ولو باستخدام القوة العسكرية، لفرض النُظم والمنظومات التي يراها متناسبة مع قيمه ومصالحه، وبما يليق مع الولايات المتحدة كقوة أولى عالمياً. أما الاتجاه الثاني فيعطي وزناً أكبر ”للقوة الناعمة“ في التغيير، ويسعى لإصلاح النظام العالمي، ويركز على آليات التفاوض والاتفاقات، ويُسوِّق اهتمامه بالتنمية وحقوق الإنسان، ويعطي اعتباراً للقوى المحلية وثقافاتها، ولاحترام الخصوصية والتعددية. ولا يميل للتدخل العسكري إلا إذا تعرّضت المصالح الأمريكية العليا للخطر.

وعادة ما يتركز أتباع الاتجاه الأول في الحزب الجمهوري، وأتباع الاتجاه الثاني في الحزب الديموقراطي.

وعلى هذا، فإن هناك تقلُّباً بين هذين الاتجاهين، خاصة عندما يحصل الفشل لدى أي منهما… ومثال ذلك حلول رونالد ريجان ”القوي“ مكان كارتر الذي يركز على القوة الناعمة، وحلول أوباما الذي يركز على القوة الناعمة مكان بوش الابن الذي لجأ للقوة في أفغانستان والعراق، غير أن هاتين الثنائيتين لا تخرجان عن الغاية النهائية في خدمة المصالح الأمريكية العليا.

أما الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط فتتلخص في:

1. الحفاظ على ”إسرائيل“ وأمنها كقوة إقليمية عظمى، وباعتبارها حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة.

2. الهيمنة على مناطق البترول لتأمين احتياجات أمريكا وحلفائها، وكأداة ضغط في الاستراتيجية الدولية.

3. تأمين خطوط الملاحة والتجارة الدولية في المنطقة، بما في ذلك مضائق وممرات هرمز والسويس وباب المندب.

4. دعم النظم السياسية الموالية أو ذات العلاقة الجيدة معها.

5. ضبط وتحديد أدوار ونفوذ نظم المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية، أو بما لا يتعارض معها على الأقل.

6. الاستفراد بالهيمنة على المنطقة ومنع أي قوة كبرى من المنافسة، إلا ضمن هامش لا يضر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية (بما في ذلك روسيا).

مبررات احتلال العراق:

لم تخرج السياسة الخارجية الأمريكية في العراق طوال الخمس وعشرين سنة الماضية عن المراوحة بين خطي الإضعاف والتفتيت. فبعد التدخل العسكري المباشر بقيادة جورج بوش الأب لضرب القوات العراقية وتحرير الكويت 1991، تابع الرئيس كلينتون (كانون الأول/ يناير 1993 – كانون الأول/ يناير 2001) سياسة إضعاف وإنهاك العراق بقصد إسقاط نظام صدام حسين بالطرق ”الناعمة“ مستخدماً أساليب الحصار والعقوبات الدولية، كما تابع توفير الحماية الجوية، ومنع استخدام الطيران العراقي في مناطق التَّركُز الكردي في شمال العراق. ثم جاء جورج بوش الابن ليعود للخط الأول في استخدام التدخل العسكري المباشر لإسقاط النظام، وفرض بيئة تفتيت داخلي عليه، ثم لحقه أوباما ليتابع خط كلينتون في الإضعاف بالوسائل الناعمة مع تخفيف الأعباء العسكرية والمالية.

خط الإضعاف الذي اتبعه كلينتون في العراق لم يكن إنسانياً ولا رحيماً ولا منطقياً في معاقبة الشعب العراقي وتدمير اقتصاده. وعلى سبيل المثال، ففي مقابلة لوكيل وزارة الخارجية العراقية رياض القيسي مع قناة الجزيرة في 1/6/2001، قال إن معدل نصيب الفرد العراقي من الأموال التي سمحت الأمم المتحدة بصرفها (طوال السنوات الخمس السابقة) كان 125 دولاراً للفرد سنوياً. مع العلم أن الأمم المتحدة، مثلاً، استوردت لمعالجة موضوع الألغام في شمال العراق 28 كلباً صرفت على إطعامهم 33 ألف دولار خلال 11 شهراً، أي أن معدل إطعام الكلب الواحد كان حوالي 1286 دولار سنوياً أي أكثر من عشرة أضعاف المصروف الذي سمحت به للفرد العراقي. لقد عوقب الشعب العراقي وجرت محاولات لإهانة كرامته وإذلاله، تحت شعار معاقبة النظام الذي تمكن من تكييف نفسه ومن الاستمرار حتى وقوع الاحتلال.

بعد تولي بوش الابن الرئاسة الأمريكية، حدثت نقلة نوعية في استراتيجية التعاطي الأمريكي مع المنطقة، فقام مدفوعاً بمدرسة ”الأمن والقوة“، ومحاطاً بتيار المحافظين الجدد المهيمن على السياسة الخارجية، ومستغلاً بطريقة فجة الأوضاع الناتجة عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ليطبق أجندات خاصة، ليس لها أي علاقة بالأحداث ذاتها. وكان احتلال العراق أكبر مثال على ذلك.

الحجتان الرئيسيتان اللتان سعت الإدارة الأمريكية لتسويقهما لتبرير احتلال العراق كانتا:

1. حيازة العراق لأسلحة دمار شامل، أو على الأقل قيامه ببرنامج لحيازة هذه الأسلحة بما يخالف التزاماته الدولية، وبما يشكل تهديداً على دول المنطقة.

2. دعم النظام العراقي للإرهاب؛ وإيواء الإرهابيين.

في 6/7/2016، أعلنت نتائج تقرير جون تشيلكوت الخاص بالمسؤولية عن مشاركة بريطانيا في غزو العراق، والذي يؤكد على كذب الأسباب المعلنة لاحتلال العراق، وأنها واهية أو منعدمة، ويتضح من التقرير أن المطلوب لم يكن مجرد استهداف صدام حسين ونظامه، وإنما العراق نفسه، دون أسباب حقيقية معلنة. ولكن لم تظهر مطالبة جادة بمحاسبة ومعاقبة من كذبوا وقاموا بالحرب ودمروا العراق. ولم يحدث التقرير الأثر والضغط الإعلامي الكافي لمحاسبة المسؤولين، حيث سيدفن كغيره من التقارير.

لقد ثبت قطعاً كذب الادعاءات الأمريكية بشأن وجود أسلحة دمار شامل في العراق. أما حكاية دعم الإرهاب، فقد كان واضحاً أنها مجرد فقاعة إعلامية؛ فالنظام العراقي لم يكن فيه أحد من تنظيمات القاعدة أو ما شابهها، وكان أحد أنجح الأنظمة في قمع تيارات ”الإسلام السياسي“، ولم يخرج منه شخص واحد ليشارك في هجمات 11 سبتمبر، أو في الاعتداء على المصالح الغربية.. إذاً، فالسؤال ببساطة إذا كان هذان السببان غير صحيحين وادعائين كاذبين… فلماذا قامت أمريكا باحتلالها للعراق؟!

تهاوي المبرر الاقتصادي:

اتجهت معظم التحليلات التي رفضت المبررات الأمريكية للاحتلال إلى أن الجانب الاقتصادي المتمثل في السيطرة على ثروات العراق وخصوصاً النفط ونهب خيراته، هو السبب الحقيقي للاحتلال… وما تزال هذه المدرسة هي الأكثر رواجاً حتى أيامنا هذه. غير أن قراءة متأنية لتكاليف الحرب الأمريكية على العراق تكشف أن النفقات والخسائر المالية الأمريكية كانت أكبر بكثير من حصول الأمريكان على النفط العراقي ولو بأسعار تفضيلية أو شبه مجانية!! ومع ذلك فالإدارة الأمريكية لم تنهب نفط العراق، كما لم تهبط أسعار النفط في أثناء احتلال الأمريكان للعراق.

من جهة أخرى، فقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية أن نفقاتها المباشرة على الحرب في الفترة 2003-2010 بلغت نحو 758 مليار دولار. أما الدراسة التي أعدها معهد واتسون للدراسات الدولية في جامعة براون (وهي جامعة أمريكية) فقد أظهرت أن تكاليف الحرب للفترة نفسها تزيد عن 1100 مليار دولار، أي بما معدله ملياران و640 مليون دولار أسبوعياً. الخبير الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، أعد بالتعاون مع ليندا بيلميز من جامعة هارفارد، دراسة قالا إن تكاليف الحرب على العراق ستكلف الاقتصاد الأمريكي نحو ثلاثة تريليونات دولار (ثلاثة آلاف مليار) في المعدل المتوسط، وبأرقام متحفظة.

وأشارت وحدة البحوث في الكونجرس الأمريكي إلى أن تكاليف الحرب على العراق ستصل إلى نحو تريليون و700 مليار دولار في سنة 2017، بما في ذلك جوانب الرعاية الصحية للجرحى والمصابين من الجنود الأمريكان وفوائد القروض… وغيرها.

وقبل أقل من أسبوع من العدوان على العراق (آذار/ مارس 2003)، أعلن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني أن الحرب في سنتها الأولى ستكلف ثمانين مليار دولار، وأن هناك حاجة لإنفاق نحو عشرين مليار دولار على مدى سنتين ليتعافى الوضع في العراق، غير أنه لم يتحدث عن تكاليف بقاء الجيش الأمريكي في العراق. فهل تعمد عدم التحدث عن تكاليف البقاء المحتملة للجيش حتى لا يؤثر سلباً على الرأي العام الأمريكي، أم أن سوء التقدير بلغ به أنه لم يكن يتوقع البقاء لأكثر من سنتين في العراق؟!

ربما ساعد الحصول على النفط العراقي بأسعار تفضيلية، وعقود إعادة الإعمار في العراق، وحتى دفع دول المنطقة لشراء الأسلحة الأمريكية، في خدمة الاقتصاد الأمريكي، ولكنها كلها عوامل غير كافية لتبرير احتلال العراق، ودفع تلك الأثمان الهائلة… فيما يبدو استثماراً خاسراً.

إذاً، لا مكاسب اقتصادية من الحرب على العراق؛ بل تكاليف هائلة أسهمت بشكل أو بآخر في الإضرار بالاقتصاد الأمريكي، وصرفت الناخب الأمريكي لاختيار المرشح الديموقراطي أوباما.

الأبعاد الجيوستراتيجية والخ

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يسلّم جثامين 84 شهيدا سرقها من غزة

الاحتلال يسلّم جثامين 84 شهيدا سرقها من غزة

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام سلمت جيش الاحتلال الإسرائيلي العشرات من جثامين الشهداء كان قد اختطفهم من مقابر في قطاع غزة. وأعلنت اللجنة الدولية...

حماس تنعى الشهيدة وفاء جرار

حماس تنعى الشهيدة وفاء جرار

جنين - المركز الفلسطيني للإعلام نعت حركة حماس إلى جماهير شعبنا الفلسطيني العظيم وأحرار أمتنا العربية والإسلامية: الأسيرة المحررة الجريحة وفاء جرار...