الإثنين 05/أغسطس/2024

السياسة الأمريكية في سوريا.. جدران الدم

محسن صالح

ناقشنا في مقال سابق السياسة الأمريكية في المنطقة وخصوصاً العراق. أما هذا المقال فيحاول تسليط الضوء على سياستها في سورية. إذ كانت هذه السياسة طوال السنوات الخمس الماضية معنية بإضعاف نظام الأسد، ولكنها لم تكن معنية بشكل جاد بإسقاطه، ولا بتحقيق تطلعات الشعب السوري، ولا حتى بحماية الشعب السوري… لقد كانت معنية بإدارة لعبة الإضعاف والتفكيك، من خلال الدفع باتجاه بيئات ترتفع فيها جدران الدم، لتنشأ سايكس بيكو اجتماعية طائفية عرقية، بغض النظر إن كان سيتبعها تغيير في حدود سياسية.

وتدخل الادعاءات بأن التدخل الإيراني والروسي في سورية هو نتيجة الضعف الأمريكي وتراجع دور أمريكا في المنطقة، في إطار المبالغات التي تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. كل ما هنالك أن هذه التدخلات تصب في نهاية المطاف في “الطاحونة الأمريكية”، ودون أن تكلف الأمريكان أعباء مالية أو عسكرية؛ وتسهم في إطالة أمد الصراع وإنهاك الأطراف المتنازعة في ظلّ عدم وجود رغبة أمريكية جادة في توقف الصراع أو إنهائه؛ بانتظار أن تنضج “الطبخة”، دون أن يكون ثمة مانع في أن تكون أطراف معادية أو منافسة لأمريكا حطباً يُبقي على اشتعال النار تحت هذه “الطبخة”.

السياسة الأمريكية في سورية:

وقريباً من الحالة العراقية، تتلخص السياسة الأمريكية في سورية في “ضبط إيقاع” الأحداث بشكل يسمح بــ:

1. استمرار الصراع لأطول فترة ممكنة، بما يؤدي إلى ضرب النسيج الاجتماعي السوري وارتفاع جدران الدم بين مكوناته الطائفية والعرقية.

2. استمرار الصراع بشكل مدمر، بما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد والبنى التحتية ووسائل الإنتاج.

3. استمرار الصراع بما يدمر الدولة المركزية والجيش المركزي، دون أن تحل مكانه قوة ثورية مركزية فاعلة، وبما يسمح بنشوء مليشيات وقوى طائفية وعرقية تسيطر على مساحات جغرافية محددة في ظلّ سلطة مركزية ضعيفة.

4. ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني في أي ترتيبات مستقبلية متعلقة بالمنطقة.

ولذلك، فإن الولايات المتحدة لم تكن معنية بالتدخل المباشر، ولكن بـ”إدارة اللعبة”، والإشراف العام على سيرها، بما يضمن ويحفظ المسارات الكلية التي تصبُّ في مصلحتها وتخدم سياساتها، وهو أمر يتوافق مع عقلية الإدارة الديموقراطية لأوباما التي تركز على الوسائل “الناعمة”.

بيئة التدخل الخارجي:

منذ إسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003 واغتيال رفيق الحريري في لبنان 2005 والمحافظون الجدد متحمسون للضغط على سورية، للتخلي عن ورقة المقاومة، وللتساوق مع مسار التسوية السلمية. وقد كتب شارلز كراوثامر في مقال نشرته الواشنطن بوست في 1/4/2005 أن هناك محور شرٍّ جديد يتمثل في سورية وإيران وحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي وأن “سورية هي الجائزة”؛ حيث إنه من السهل الضغط عليها. وادعى روبرت ساتلوف (المدير التنفيذي لمركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أن النظام السوري في وضع هشٍّ جداً، وأن على أمريكا أن تستغل ذلك. كما كتب دينيس روس وغيره كلاماً شبيهاً بذلك. غير أن الكتابات كانت تركز على ما هو مطلوب من سورية تجاه العراق ولبنان ومسار التسوية والمقاومة؛ وتفتقر للتركيز على الإصلاح وتطبيق الديموقراطية… أي أن الحديث كان منذ البداية مرتبطاً بالسعي لإعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وفي أيلول/ سبتمبر 2005 نقل نيكولاس بلاندفورد مراسل كريستيان سيانس مونيتور عن خبير دراسات الشرق الأوسط جون لانديس قوله “سوف يمسكون بخناق سورية، ويضغطون عليهم، ويهزونهم بعنف، حتى يروا ما الذي يمكن أن ينزل من جيوبهم”!!

عبَّر الحراك الشعبي الواسع في سورية في ربيع 2011 عن إرادة حقيقية في التغيير؛ ولعدة أشهر ظلت الانتفاضة الشعبية تأخذ طابعاً مدنياً سلمياً… غير أن النظام السوري فضَّل الحل الأمني العنيف، ما أدى لاستشهاد نحو ستة آلاف سوري مع نهاية 2011… وهو وضع جرَّ إلى “عسكرة الثورة”، بعد أن أغلقت الأبواب في وجه أي حراك ذي طبيعة مدنية، يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي نحو نظام ديموقراطي، يعبر تماماً عن الإرادة الشعبية.

كانت عملية “عسكرة الثورة” عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ غير أن النظام السوري وجد فيها أفضل خياراته المتاحة في مواجهة التغيير؛ إذ كان هذا الخيار سيتيح له قمع الحراك الشعبي، ومحاصرة البؤر الثورية وعزلها عن بُعدها الجماهيري؛ كما أن لجوء جانب من المعارضة للخيار العسكري سيتيح للنظام اللعب في المنطقة التي يجيدها، حيث لا تملك المعارضة إمكانات عسكرية في مواجهته؛ وهو من جهة ثالثة سيستخدم آلته الإعلامية في وصف المعارضة العسكرية بالتطرف والإرهاب، وبالتالي سيحاول تقديم نفسه في صف واحد مع المعسكر المحارب للإرهاب، بما يتوافق مع المخاوف والرغبات الغربية؛ وبما “يُشرعن” قمعه للحراك الشعبي الثوري في أعين الآخرين.

غير أن مثل هذا العمل لم يأخذ في حسبانه أنه مثلما أجاز لنفسه استخدام القوة العسكرية، ومثلما أجاز لنفسه الاستعانة بقوى خارجية إقليمية ودولية؛ فإن هذا الحراك الشعبي عندما يكون قوياً وواسعاً لن ينزوي في البيوت، وإنما ستتحول أطراف منه إلى الثورة المسلحة، وهو ما سيضطرها لاستجلاب الدعم الخارجي السياسي والعسكري.

وهكذا، فقد فتح إصرار النظام على قمع الثورة، وإصرار الثورة على إسقاط النظام، فرصة هائلة للتدخل الخارجي، زادت مع الزمن، مع تحول الصراع إلى حرب استنزاف منهكة للطرفين. وهذا أعطى فرصة ذهبية للأمريكان لمحاولة الدخول كلاعب كبير في الصراع الداخلي السوري، بل كـ”مايسترو” يتحكم بالمسار الكلي للعبة.

سياسات وإجراءات أمريكية:

وحتى تنفذ الإدارة الأمريكية سياستها؛ فقد قامت من ناحية أولى بدعم قوى المعارضة في المطالبة بإسقاط الأسد، وغضت الطرف عن تسليح المعارضة وقيامها بالسيطرة على أجزاء من سورية، ووضع النظام في مرحلة صعبة، لكنها لم تسمح إطلاقاً بتسليح المعارضة بأسلحة نوعية تؤدي لهزيمة النظام أو لإسقاطه، ومنعت الدول الداعمة للمعارضة (كقطر والسعودية وتركيا) من توفير هذا السلاح، حتى لو توفر التمويل اللازم لذلك.

ومن ناحية ثانية، سكتت أمريكا عن التدخل الإقليمي لدعم النظام السوري (إيران وحزب الله…)، وغضت الطرف عن تدفق السلاح والمقاتلين الداعمين للنظام (خصوصاً وأنه يعطي للصراع طبيعة مذهبية طائفية، في أعين قطاعات شعبية واسعة، ويتوافق مع الرغبات الأمريكية في توريط وإنهاك إيران وقوى “المقاومة والممانعة”، وحرف بوصلتها، واستعداء شعوب المنطقة ضدها، وإظهارها كمُعادٍ وقامع لتطلعات الشعوب)؛ بحيث يتمكن النظام من البقاء، وأخذ زمام المبادرة والتوسع؛ ثم يتبع ذلك سماح أمريكا بتدفق السلاح للمعارضة لاسترداد المواقع التي خسرتها… بحيث تتواصل حالة الشعور لدى كلا الطرفين بإمكانية الانتصار والحسم العسكري للمعركة، وبالتالي تستمر عملية التدمير والقتل والإنهاك المتبادل، وهذا مشهد بات مألوفاً ومتكرراً في الحالة السورية.

وقد أدت هذه السياسة إلى معاناة هائلة للشعب السوري وللأطراف المتصارعة؛ فقد بلغ عدد الضحايا، خلال نحو خمس سنوات وشهرين (حتى 25/5/2016) إلى نحو 282 ألف سوري، وأُصيب نحو مليونين بجراح، وتمّ تشريد نحو 11 مليوناً. مع الإشارة إلى أن الخسائر البشرية في القوات العسكرية للنظام والمليشيات الموالية بلغت أكثر من مائة ألف.

ومن ناحية ثالثة، فبالرغم من تباكي أمريكا على الحالة الإنسانية، فقد رفضت إعلان سورية منطقة حظر لطيران النظام (ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان)، وتركت المجال واسعاً وآمناً لهذا الطيران لقصف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة؛ في الوقت الذي منعت فيه وصول أسلحة نوعية مضادة للطيران لقوى المعارضة، ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان، الذين وفروا حظراً جوياً على طائرات النظام العراقي في شمال العراق لحماية الأكراد منذ سنة 1991؛ والذين وفروا هذه الحماية أيضاً في أثناء عملية إسقاط النظام الليبي. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان فإن سنة 2015 لوحدها شهدت 619 مجزرة من بينها 413 ارتكبها طيران النظام السوري و79 ارتكبها الطيران الروسي.

ومن ناحية رابعة، فقد تعمدت الولايات المتحدة إفشال إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سورية على الحدود مع تركيا، والتي كانت ستخفف كثيراً من معاناة مئات الآلاف من المهجرين السوريين، وتوفر ملاذاً للمعارضة السورية. بالرغم من أن ذلك لم يكن أمراً مكلفاً للأمريكان، إذ كان أصدقاؤهم الأتراك والسعوديون والقطريون سيتولون تكاليفه المادية والعسكرية. مع ملاحظة أن أمريكا وفرت “عملياً” هذا النوع من الحماية للقوات الكردية السورية (وحدات حماية الشعب) التي تمكنت من مدِّ نفوذها على مناطق واسعة في الشمال السوري، بما يكرس الهيمنة العرقية لأحد مكونات الشعب السوري دون غيره من قوى المعارضة؛ وبما يتوافق مع فكرة الإضعاف والتقسيم ورفع الجدران الطائفية والعرقية التي تتبناها الإدارة الأمريكية.

ومن ناحية خامسة، فإن الولايات المتحدة التي كانت قد تحمست للتدخل لحماية المدنيين السوريين بعد ظهور تقارير عن استخدام النظام السوري لغاز السارين الذي أدى لقتل 1400 مدني في الغوطة في صيف 2013، قد تراجعت دون أسباب واضحة عن مهاجمة النظام السوري. وقد اعتبر جيفري غولدبيرغ في المقال الذي نشر في مجلة ذا أتلانتيك في نيسان/ أبريل 2016 أن يوم 30/8/2013 هو اليوم الذي طوى فيه أوباما حكم أمريكا للعالم، عندما قرر عدم ضرب سورية؛ مكرساً ما عُرف بـ”عقيدة أوباما” بأن التدخل الأمريكي يكون فقط لحماية الأمن القومي الأمريكي، وأن ما لا يُحلُّ بالتفاوض لا يُحلُّ بالقوة، وأنه لا ينبغي تعريض الجنود الأمريكيين للخطر، وفق مبدأ “مسؤولية الحماية” للحؤول دون كوارث إنسانية.

هذا المقال الذي جرى تسويقه على نطاق واسع، باعتباره مُعَبِّراً عن استراتيجية الإدارة الأمريكية وتراجع دورها العالمي، يحمل الكثير من التضليل فيما يتعلق بالشأن السوري؛ إذ إن استخدام الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات الأمريكية أو الطائرات العسكرية الأمريكية المتقدمة لم تكن تحمل مخاطر تذكر على أمن الجنود الأمريكيين. وفي المقابل فإن الطيران الأمريكي له الدور الرئيسي في مهاجمة معاقل داعش، وفي دعم القوات الكردية في سورية. كما أن الأمريكان لديهم نحو 4600 جندي أمريكي في العراق، يشاركون بغطاء جوي أمريكي في مهاجمة مناطق نفوذ داعش هناك. بمعنى أن الأمر لم يكن متعلقاً بتغير في الاستراتيجية الأمريكية، بقدر ما أنه لم تكن هناك رغبة أمريكية في التدخل في سورية، ما دام سياق الأحداث يصبُّ في المسارات التي ترغبها.

ولذلك فقد اكتفت أمريكا في موضوع الأسلحة الكيماوية بحلٍّ يخدم استراتيجية إضعاف سورية، كما يخدم الكيان الإسرائيلي، ويتلخص في موافقة النظام السوري على التخلص من أسلحته الكيماوية. ولكنه حلٌّ يترك للنظام السوري حرية الاستمرار في حربه ضدّ المعارضة براً وبحراً وجواً؛ ولا يأبه إن كان المدنيون السوريون سيقتلون بأي وسائل أخرى. وبالتالي، فإن النظام السوري قتل بالأسلحة العادية عشرات أضعاف ما قتله بالكيماوي. ووفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا المدنيين على أيدي النظام خلال السنوات الخمس الأولى للصراع نحو 184 ألفاً، بينما قتل من المدنيين على يد فصائل المعارضة نحو ثلاثة آلاف وعلى يد داعش ألفان ومئتان.

من ناحية سادسة، فإن التدخل الروسي لصالح النظام السوري لم يكن ليتم لولا عدم الممانعة الأمريكية لذلك. وهو تدخل لم يُفرض فرضاً على الأمريكان؛ إذ لا مانع لدى الأمريكان من انزلاق الروس في المستنقع السوري، ولا مانع لدي

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يسلّم جثامين 84 شهيدا سرقها من غزة

الاحتلال يسلّم جثامين 84 شهيدا سرقها من غزة

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام سلمت جيش الاحتلال الإسرائيلي العشرات من جثامين الشهداء كان قد اختطفهم من مقابر في قطاع غزة. وأعلنت اللجنة الدولية...

حماس تنعى الشهيدة وفاء جرار

حماس تنعى الشهيدة وفاء جرار

جنين - المركز الفلسطيني للإعلام نعت حركة حماس إلى جماهير شعبنا الفلسطيني العظيم وأحرار أمتنا العربية والإسلامية: الأسيرة المحررة الجريحة وفاء جرار...