القيق.. جيش في رجل
حتى كتابة هذه السطور، ما زال الصحفي الفلسطيني، المعتقل الإداري، محمد القيق، يتنفس، وليته يبقى على قيد الحياة. فروحه، بعد 86 يوماً من إضرابه المفتوح عن الطعام، باتت معلقة بخيط رفيع بين الحياة والموت. لكنه، بإرادة فولاذية، وعنفوان منقطع النظير، ما زال صامداً، ثابتاً على موقفه: «الحرية أو الشهادة». إننا إزاء بطل أسطوري، يدعونا إلى تجديد القول: لئن كان من التعسف اختزال البطولة الجماعية للأسرى الفلسطينيين في بطولة أفراد، فإن الإنصاف يقتضي التنويه ببطولة هذا المناضل السائر على درب مناضلين وقادة استثنائيين أشداء، لا تثنيهم ظروف التراخي أو التراجع العام، بل، يتقدمون الصفوف، لدق «جدران الخزان»، و«تعليق الجرس»، على طريقة مَن يحفر الصخر بالأظافر، ومَن يتسلح ب«تفاؤل الإرادة» في محطات «تشاؤم العقل»، لصناعة بطولات فردية، تشق طريقاً جديداً، وتجعل الصعب سهلاً، والحلم إنجازاً، والخيال واقعاً، والقول فعلاً، والأمنية حقيقة، والاستثناء قاعدة.
فصناع هذه البطولات الفردية الأسطورية، والمناضل محمد القيق منهم بامتياز، هم، بمعزل عن سنهم، مرحلتهم، حزبهم، وفكرهم، نماذج تحتذى، بوصفهم الفعل الذي يصنع المنابر، وملح الأرض الذي لا يفسد، والضمير الذي لا يصدأ. إنهم الطلائع، حراس القيم الوطنية، داخل السجن وخارجه، منذ بدء الهجمة الصهيونية، ونشوء الحركة الوطنية الفلسطينية في عشرينات القرن الماضي. ففي عهد الانتداب البريطاني، تسابق، في العام 1929، الأسرى محمد جمجوم، عطا الزير، وفؤاد حجازي على حبل المشنقة. وفي العام 1935، رفض الشيخ الجليل الشهيد القائد عز الدين القسام الاستسلام بعد محاصرة مجموعته، وصاح في رفاقه: «أن موتوا شهداء».
وفي العام 1948 رفض القائد عبدالقادر الحسيني أوامر وقف القتال، وواصل، رغم اختلال ميزان القوى وخذلان مَن خذله، معركة القسطل البطولية حتى استشهد، واثقاً بشعبه، حيث قال ما أصبح نبوءة: «سيقاتل الشعب الفلسطيني، جيلاً بعد جيل، حتى تحرير فلسطين».
وعلى درب هؤلاء الأجداد والقادة العظام، سار في مرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة، مناضلون وقادة أسرى أشداء، استثنائيون كثر، نذكر منهم، (للتدليل لا الحصر)، الشهيد القائد الأسير عبدالقادر أبو الفحم الذي رفض، رغم جراحه المميتة، رجاء زملائه بعدم المشاركة في إضرابهم المفتوح عن الطعام، عام 1970، بالقول: «لا تأخذوا كل الشرف.. أعطوني نصيبي منه»، ليكون أول شهداء الإضرابات عن الطعام في سجون الاحتلال. والشهيد القائد الأسير محمد الخواجا الذي لم يقبل، في العام 1976، مساومة علاج جرح معدته مقابل الاعتراف في أقبية التحقيق، وظل صامداً حتى استشهد. والشهيد القائد عمر القاسم الذي اقتادوه من سجنه ليطلب من رفاقه، مجموعة «عملية معالوت» الفدائية، إلقاء سلاحهم، مقابل الإفراج عنه، لكنه رفض المساومة، وخاطب رفاقه بالقول: «أيها الرفاق نفذوا ما جئتم من أجله»، فعاقبه قادة الاحتلال باستثنائه من كل صفقات تبادل الأسرى حتى قضى شهيداً عام 1989. والشهيد القائد الأسير إبراهيم الراعي الذي رفض الإفراج عنه ضمن مجموعة من الأسرى بطلب من «روابط القرى» حيث تقدم الصفوف وخاطب وسائل الإعلام الصهيونية المنتظرة المفرج عنهم على «روابط القرى» بالقول: «من ناحيتي لا يشرفني الإفراج عني بطلب من حركة سياسية مرتبطة بالاحتلال.. أعيدوني إلى السجن»، فأعادوه، ثم اغتالوه، لاحقاً، عام 1988، في أقبية التحقيق.
وفي السنوات الأخيرة، سجل كل من الشيخ خضر عدنان، وسامر العيساوي، ومحمد عليان، بطولات أسطورية، وهزموا، بأمعائهم الخاوية، قادة الكيان الصهيوني، وانتزع كل واحد منهم حريته. ومثل هؤلاء جميعاً، ما انفك الأسير البطل محمد القيق، يقاتل، بأمعائه، كأنه جيش في رجل. ماذا يعني الكلام أعلاه؟
الأسرى الفلسطينيون قضية متعددة الأوجه، وتاريخاً نضالياً مديداً، وبطولة أسطورية، ومعاناة مريرة، وهموماً متشعبة يصعب حصرها، ما يجعل كل حديث عن قضية البطل محمد القيق، ناقصاً، إن هو لم يندرج في إطار إعادة تدقيق وتعميق فهم قضية الأسرى، بوصفهم نتيجة حتمية، وضريبة لا مناص منها، ورمزاً شامخاً، لقضية شعبهم ونضاله الوطني لاسترداد حقوقه في الحرية والاستقلال والعودة، ما يعني أن تحريرهم، أو انتزاع معاملتهم كأسرى حرب، أو حتى تحسين شروط عيشهم، مسألة نضالية، توجب التحرك الوطني والقومي لأجلهم، بصورة استراتيجية لا تكتيكية، دائمة لا موسمية، وسياسية واعية مخططة ومبادرة، لا ردة فعل على تصعيد التنكيل بهم، كما يحصل اليوم، مع المناضل البطل محمد القيق، بشكل يفوق كل تصور، ويتجاوز كل حدود.
يعني الأسرى ليسوا فرعاً هامشياً أو ملحقاً بأصله، بل، فرع شريك له حقوق واستحقاقات ومقتضيات مطلوب تلبيتها، بالوسائل والمعاني كافة. إذ صحيح أن من غير المنطقي حصْر ملحمة النضال الوطني الفلسطيني في تجربة الحركة الوطنية الأسيرة، لكنه من الظلم تجاهل خصوصية، وفرادة، تجربة الأسرى، وطليعية دورهم، وجوهرية مساهمتهم، في الكفاح الوطني. فالأسرى الذين يتقدم، اليوم، المقاتل محمد القيق صفوفهم، يحتلون خندقاً متقدماً، في ممارسة المقاومة، والتشبث بها، والدفاع عنها، ثقافة وبنية وخياراً، ويخوضون اشتباكاً دائماً، يومياً، مباشراً، وتفصيلياً، مع أكثر أجهزة الاحتلال، الأمنية والإدارية، تطرفاً وفاشية وسادية وعنصرية. اشتباك، قط، لا ولن يعي، فما بالك أن يتحسس، ما في جوفه من صور المعاناة والبطولة الحسية إلا أولئك الذين انخرطوا في معمعانه لسنوات أو لعقود، لكنهم ظلوا أنقياء جامحين مقتحمين، تملؤهم حقول العطاء، وما انفكوا، رغم قسوة السجن ومجافاة الظروف، شامخين كسارية تخفق فوقها رايات حرية الوطن والشعب، يواصلون معاركهم الجماعية، والفردية، كما يفعل اليوم، بطل فلسطين المناضل محمد القيق، حتى النهاية، مع صرخة مدوية، هي «الحرية أو الشهادة»، لتصبح معاناتهم وبطولتهم – قبل كلماتهم – كتاباً مفتوحاً لجماهير شعبهم المكافح الصبور في الوطن والشتات.
………………………….
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
المقاومة الإسلامية بالعراق تقصف أهدافا بفلسطين المحتلة
بغداد – المركز الفلسطيني للإعلام قالت المقاومة الإسلامية في العراق، إنها هاجمت اليوم الأحد، "هدفاً حيوياً" في أم الرشراش "إيلات" في الأراضي...
كتائب القسام تنعى القيادي في حزب الله علي كركي
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام نعت كتائب الشهيد عز الدين القسام؛ الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، القيادي بالمقاومة الإسلامية في...
816 شهيدًا بغارات إسرائيلية على لبنان بعد 6 أيام من العدوان
بيروت – المركز الفلسطيني للإعلام استشهد 816 شخصاً بينهم أطفال ونساء وأصيب 2507 آخرون منذ الاثنين وحتى مساء السبت في العدوان الإسرائيلي على لبنان، ما...
حماس: العدوان الصهيوني على اليمن وسوريا ولبنان استمرار للعربدة الصهيونية الإجرامية في المنطقة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت حركة المقاومة الإسلامية حماس، أن القصف الصهيوني الإرهابي على اليمن الشقيق، واستهدافه منشآت مدنية في ميناء...
“لن تنالوا من عزيمة المقاومة”.. وقفة غضب في عمّان تضامنًا مع لبنان
عمان – البوصلة أقيمت مساء اليوم الأحد أمام مسجد الكالوتي بالقرب من السفارة الصهيونية في العاصمة عمّان وقفة شعبية غاضبة انتصارًا لدماء الشهداء في...
البرازيل.. مظاهرة تضامنية مع غزة ولبنان
سان باولو – المركز الفلسطيني للإعلام تظاهر مئات الأشخاص في مدينة ساو باولو البرازيلية، السبت، احتجاجا على الهجمات الإسرائيلية في غزة ولبنان. ورفع...
4 شهداء وعشرات الجرحى بغارات إسرائيلية عدوانية على ميناء الحديدة اليمني
صنعاء - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وسائل إعلام يمنية، استشهاد 4 أشخاص وإصابة العشرات من جراء العدوان على الحديدة....