إعلام الانتفاضة بين البطولة والمظلومية
![ياسر عبد الغفور *
ياسر عبد الغفور *](https://palinfo.com/wp-content/uploads/models/media/images/2015/12/20/1632607101.jpg)
يؤدي الإعلام بأشكاله التقليدية والحديثة، دورًا مهمًّا في مواكبة الانتفاضة الفلسطينية، بل وصناعة بعض أحداثها، وفق التقديرات، والمعطيات المتوفرة وبناء على التحليل الموضوعي لأنماط المواجهة الدائرة والعمليات المنفذة التي يغلب على الكثير منها الطابع الفردي.
ومنذ اندلاع الانتفاضة مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكما في كل أزمة أو موجة ثورية، أو حتى عدوان إسرائيلي، يعود الجدل حول الخطاب الإعلامي الفلسطيني ومدى كفاءته في التعبير الموضوعي والصادق مع مجريات الأحداث، ومدى قدرته في الوصول والتأثير في الرأي العام المحلي والخارجي.
وإذا كان يسجل للإعلام الفلسطيني قدرته على إبراز جرائم الاحتلال وفرضها على أجندة الأحداث في العالم، رغم الضخ الرهيب للأحداث وعمليات القتل التي تصل إلى العشرات والمئات في أكثر من ساحة في المنطقة، إلا أنه باستقراء الخطاب الإعلامي للأحداث على مدار قرابة ثمانين يومًا من عمر الانتفاضة نجد أننا أمام خطاب تائه مشتت مرتبك مرهون بأجندات مالكيه المتعارضة، بفعل الانقسام وتضارب المصالح وتاريخ من عدم الثقة.
فلدينا إعلام السلطة الذي ينقل أخبار “الهبة” بحذر، تبعًا لتوجُّهات قيادة السلطة وما تريده من الانتفاضة، كهبة ذات أبعاد تحريكية لا تريدها أن تتطور لانتفاضة عارمة يمكن أن تؤثر على مستقبل السلطة، لذا نجد إعلامها هادئًا في المتابعة، يركز على إطار الضحية والمظلومية من الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية، وربما لوى أعناق بعض الحقائق إذا تعلقت بعمليات فدائية وجرَّدها من الفعل البطولي، مركزًا عليها كحدث عابر ورقم في حصيلة “الضحايا”.
الإعلام المرئي التابع للسلطة يمارس بشكل أوسع عملية “التبريد” للأحداث، من خلال تجنب البث المباشر للمواجهات، أو فتح موجات تحليلية وتغطيات مباشرة للتطورات ومناقشة أبعادها.
على النقيض من ذلك، يبدو خطاب فصائل المقاومة كحركة حماس والجهاد الإسلامي. فقناة الأقصى، استحدثت استوديو الانتفاضة الذي يحاكي بديكوراته مجريات الأحداث، وخصصت هي وقناة فلسطين اليوم، وكذلك قناة القدس، موجات مفتوحة غلب عليها “التسخين” والتحريض وتأجيج الأوضاع. ولم يكن غريبًا في ظل التوظيف المقصود للصوت والصورة والكلمة، أن يندفع شبان وأطفال وفتيات قاصرات لتنفيذ أو محاولة تنفيذ عمليات طعن ضد جنود الاحتلال أو مستوطنيه، الذين أوغلوا في اعتداءاتهم وممارساتهم وخلقوا بيئة قابلة للانفجار.
الواقع أن هناك خطابين أساسيين للانتفاضة، أحدهما يمارس التسخين والتأجيج، والآخر يركز على التسكين، وكأن ديناميكيات الأحداث يقودها هذان الطرفان، في حين حقيقة الأمر إننا نتحدث عن انتفاضة شعبية خالصة بإرادة حرة ناجمة عن بلوغ اعتداءات المستوطنين ومخططات استهداف المسجد الأقصى حدًا لا يمكن السكوت عنه لكل صاحب ضمير حي. ثم إن إشكالية الخطاب الإعلامي الفلسطيني لا تتوقف عند هذا التيه بين أجندتي هذين التيارين، بل في تناقضات الخطاب وأولوياته عبر أبعاده الثلاثة (المحلية، الإقليمية، الدولية).
ومن المفارقات حديث بعض الوسائل الإعلامية عن الشهيد فلان أو فلانة، كمنفذ عملية بطولية فدائية، في إعلاء للجانب البطولي، وفي خبر أو تقرير آخر بذات الصحيفة، نجد خطاب المظلومية بالحديث عن دس الاحتلال السكين، أو نفي عملية الطعن أو وضعها في إطار التشكيك.
وتتجلى الإشكالية بشكل أوضح عندما يتعلق بحالات الأطفال والفتيات القاصرات، الشهداء الذين حاول بعضهم تنفيذ عمليات طعن، حيث يتبدى الارتباك ويقدّم هذا الشهيد الطفل بخطاب ملتبس تارة أنه بطل وتارة ضحية مظلوم، مع أنه لو تم اعتماد القواعد المهنية الصحيحة لأمكن التوفيق بين الجانبين.
فمن بين 26 شهيدًا من الشهداء الأطفال في الانتفاضة، هناك 20 قالت قوات الاحتلال إنها أطلقت عليهم النار بعد محاولتهم تنفيذ عمليات طعن ومهاجمة جنود ومستوطنين، غالبيتهم كانوا مادة واضحة لهذا الارتباك والتناقض، الذي يضعف تأثير الرواية الفلسطينية، خاصة في إطار خطاب الرأي العام الدولي.
وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بما أتاحته من منصات مفتوحة للجميع كي يشارك ويتحدث، في زيادة هذا الإرباك، إذ ما إن تخرج رواية رسمية تركز على المظلومية، وتجرد الجانب البطولي، حتى نجد ناشطًا وله آلاف المتابعين ينشر فيديو وصية للشهيد أو الشهيدة، أو تسجيلًا للحظة استشهاده وتوثيق تنفيذه عمليته؛ بما يحول الرواية الرسمية إلى موضع سخرية، ومدخلًا للتشكيك في كل رواية المظلومية الحقيقية على كثرتها.
من الأمثلة الجلية لحالة التضارب التي جرت، تداول رواية الشهيدة الطفلة أشرقت قطناني، ابنة الستة عشر ربيعًا، من مخيم عسكر الجديد في نابلس، التي تعرضت لإطلاق نار وعملية دهس من أحد المستوطنين بعد محاولتها تنفيذ عملية طعن، في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. الرواية الفلسطينية الأولى حاولت إنكار عملية الطعن، وأحد المواقع وصل به الأمر إلى استنطاق شهود فلسطينيين تحدثوا بأن جنود الاحتلال دسوا السكين لتبرير الإعدام بدم بارد، وبدت تسود هذه الرواية، ثم جاء والد الشهيدة ليتحدث فخرًا عن ابنته الشهيدة وعن أنها بالفعل حاولت تنفيذ عملية فدائية، بعدما لم تحتمل اعتداءات الاحتلال ضد رفيقاتها وشعبها وقدسها.
سيبقى هذا التيه والتناقض قائمًا في ظل تعارض المصالح والتوظيف السياسي والحزبي للانتفاضة الجارية، وسيبقى قائمًا طالما غيبت قواعد العمل المهني في تغطية الأحداث.
قواعد الخروج من هذا الإشكال الذي يُضيّع الكثير من ثمرة هذه التضحيات والدماء الزكية، واضحةٌ، وتتطلب في الشق السياسي الاتفاق على رؤية موحدة تستجيب لإرادة هذا الشعب المتطلع للحرية والخلاص من نير الاحتلال، أما في الشق الإعلامي فتستدعي تبني المصداقية والدقة والموضوعية، ونقل الواقع كما هو وليس كما نتمنى، فتضحيات شعبنا كبيرة وفيها القدر الهائل من المظلومية، وكذا في جانب البطولة، فلا ينبغي الخلط، أو الإنكار أو التوظيف المنحرف للأحداث.
* كاتب من غزة
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
![حماس: المقاطعة زعزعت اقتصاد الكيان ونزعت الشرعية عنه](https://palinfo.com/wp-content/uploads/models/media/old/images/2015/6/9/-1537367262.jpg)
حماس: المقاطعة زعزعت اقتصاد الكيان ونزعت الشرعية عنه
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية حماس، إن جهود مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي المجرم حققت إنجازات مهمة في زعزعة اقتصاد الكيان...
![لليوم الـ 263.. القسام يواصل الاشتباك والتصدي لقوات العدو](https://palinfo.com/wp-content/uploads/2024/06/ff43ca7a3ef2ebcf36bb01bfce60e549.jpeg)
لليوم الـ 263.. القسام يواصل الاشتباك والتصدي لقوات العدو
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تواصل كتائب الشهيد عز الدين القسام لليوم الـ 263 على التوالي، التصدي للقوات الصهيونية المتوغلة في عدة محاور من قطاع...
![حياة النازحين وسط قطاع غزة مهددة بالمياه العادمة](https://palinfo.com/wp-content/uploads/2024/06/GMjOHGYXwAA-yPM-1080x675.jpeg)
حياة النازحين وسط قطاع غزة مهددة بالمياه العادمة
لندن – المركز الفلسطيني للإعلام تنتشر المياه العادمة بشكل كبير في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وهي التي تؤوي نحو 700 ألف فلسطيني غالبيتهم نزحوا من...
![توثيق مشاهد اعتداء كلبٍ بوليسيٍ لجيش الاحتلال على مُسنّةٍ في غزة](https://palinfo.com/wp-content/uploads/2024/06/M6W62.jpeg)
توثيق مشاهد اعتداء كلبٍ بوليسيٍ لجيش الاحتلال على مُسنّةٍ في غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أظهر توثيق مصور اعتداء وحشي من قبل كلب بوليسي مدرب تابع لوحدة في جيش الاحتلال على مُسنّة، خلال اقتحام منزلها في جباليا...
![مسؤولة أممية: أكثر من 200 موظف إغاثة قتلوا بغزة منذ 7 أكتوبر](https://palinfo.com/wp-content/uploads/2023/12/UNRWA-740x420-1.jpeg)
مسؤولة أممية: أكثر من 200 موظف إغاثة قتلوا بغزة منذ 7 أكتوبر
نيويورك – المركز الفلسطيني للإعلام قالت مسؤولة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في غزة (أوتشا) ياسمينة جيردا، إن أكثر من 200 شخص من...
![حماس: أيّ يدٍ للاحتلال تحاول العبث بمصير شعبنا ستقطعها المقاومة](https://palinfo.com/wp-content/uploads/2024/05/265418-1080x675.jpeg)
حماس: أيّ يدٍ للاحتلال تحاول العبث بمصير شعبنا ستقطعها المقاومة
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت حركة المقاومة الإسلامية حماس، الثلاثاء، إن "حديث رئيس مجلس الأمن القومي الصهيوني، الإرهابي تساحي هنغبي، عن...
![هنية: استهداف عائلتي لن يغيّر موقفنا فكلّ شهيدٍ بفلسطين من أهلي](https://palinfo.com/wp-content/uploads/2024/06/Screenshot-2024-06-04-195911-1080x653.jpeg)
هنية: استهداف عائلتي لن يغيّر موقفنا فكلّ شهيدٍ بفلسطين من أهلي
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام أكد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في تعقيبه على استشهاد شقيقته الكبرى وعائلتها في مجزرة إسرائيلية...