السبت 05/أكتوبر/2024

في أسباب التراجع المصري عن اتهام حماس (قراءة تحليلية)

في أسباب التراجع المصري عن اتهام حماس (قراءة تحليلية)

لم يكن من المفاجيء أن يقوم المحامي المصري، صاحب الدعوة لاعتبار حماس حركة “إرهابية” بالتنازل عن الحكم القضائي قبل يوم واحد من نظر المحكمة ذاتها بالاستئناف الذي تقدمت به الحكومة المصرية، فالظرف السياسي الدافع لتقديم هذه الدعوة هو ذاته الظرف الدافع للتنازل عنها بفارق توقيت الأيام.

هذا التراجع كما هي الخطوة ذاتها لم تكن ضمن مسار قضائي حقوقي بحت، بل إن خطوة الطلب والتنازل عنه تعزز كيف أنه يحمل “الطابع السياسي” الحامل لرسالة حاول صاحبها إيصالها إلى الطرف المعني، لكنه سرعان ما أعادها ليغير من مضمونها، وفقا لتطورات لم يكن هذا الطرف يدركها أو يتوقعها قبل صياغته الرسالة بمضمونها الأول.

ما بين اتخاذ الخطوة باعتبار حماس “إرهابية” أو التنازل عن ذات الموقف، يترك المجال للحديث عن كثير من الأسباب الدافعة للتراجع عن هذا الاتهام، لتعيد توضيح المشهد بكافة تكويناته

في كلتا الحالتين، ما بين اتخاذ الخطوة باعتبار حماس “إرهابية” أو التنازل عن ذات الموقف، يترك المجال للحديث عن كثير من الأسباب الدافعة للتراجع عن هذا الاتهام، لتعيد توضيح المشهد بكافة تكويناته الإقليمية والعربية، ومحاولة استعاضة ما فوتته الأيام السابقة من عدم “قراءة صحيحة” للمستقبل. 

وعلى الرغم من محاولة إخراج الموقف الأخير بزاوية “سينمائية سياسية” كتنازل صاحب الدعوة عن القرار القضائي، إلا أن هناك عدداً من الأسباب الدافعة لهذه الخطوة، والتي يمكن أن تتأتي ضمن قراءة محورية ثلاثية الأضلاع، تتمثل في:

* ثباتيه الموقف “الـحمساوي الفلسطيني” والدفاع عنه؛ فقد شكلت ردة الفعل من حركة حماس، وفصائل المقاومة الفلسطينية، والشارع الفلسطيني تكاملية في الثبات تجاه “مبدأ المقاومة”، خاصة إذا ما استثنيا بعضا من المواقف السلبية التي لا تمثل إلا نظرة من أطلقها. 

فرفض حماس والمقاومة الفلسطينية التعاطي مع القرار، والتمسك بالمقاومة، نابع من أحقيتها في الوجود كجزء رئيس من منظومة الكل الفلسطيني، ورفض التعاطي معها بمعزل عن هذه المنظومة التي تشكل إحدى لبناتها الأساسية، كما أنها تمثل رأس حربة المقاومة في ظل ظروف كان من الممكن أن تجعل منها فصيلا هامشياً.

كما أنها، حماس وما تمثله من نهج مقاوم، نموذج واضح وناصع في مفهوم حركات التحرر التي ترفض أن تستغل الأجواء الإقليمية أو أن يتم استغلالها لتمرير بعض المواقف، وهذا ثابت في تاريخها ومنهجها التطبيقي على الأرض، وبالتالي دافعت وبقوة عن رؤيتها ضد المحاولات التي تحاول حرف بوصلتها عن الهدف الوجودي المتمثل في تحرير الأرض والإنسان من الاحتلال.

هذا الموقف الواضح والرافض، شكل حاجز الصد الأول أمام القرار وإمكانية تمريره، سواء تمريراً ظاهرياً من باب التسويق الإعلامي، أم تمريراً جوهريا في تطبيقه ضمن أدوات القانون التي تجعل منه مقصلة لملاحقة أي فروع المقاومة الفلسطينية فيما بعد، وهو ما دفع الموقف الرسمي المصري منذ البداية التزام مبدأ الصمت الذي يمكن أن يعكس انتظاره لطبيعة الموقف المقاوم تجاه أمثال هذه الأمور.

* الورقة الوازنة في مفهوم المعادلات؛ حيث تشكل القضية الفلسطينية كما هي دائما، الورقة الوازنة في مفهوم المعادلات الإقليمية والدولية، وهذه يمكن قراءتها من رؤيتين؛ الأولى في نظرتنا لعدالة القضية وفقا لكافة الأسس والشرائع الدولية والتي ترفض أن يزج بها في أتون “التشوهات” السياسية التي يمكن لبعض الأطراف السعي لها. 

وهذا واضح من المواقف العربية والإسلامية، على الصعيد الشعبي والمنظمات التي دافعت عن نهج المقاومة، ورفضت المساس به كمسلمة من مسلمات الحق الإنساني في مقاومة الاحتلال، كما أنه واضح في أن نهج المجتمعات الغربية التي باتت تشكل حالة من التحرك الشعبي الداعم للموقف الفلسطيني وقضيته العادلة رغم ما تمارسه الدعاية الصهيونية العالمية من تضليل تام.

فالمقاومة وفي مقدمتها حماس هي مفتاح يستحيل تجاوزه عند طرق أبواب القضايا المركزية الفلسطينية.

وفي الرؤية الثانيه، انعكاساتها على الوزن الحقيقي للاعبين الإقليميين والدوليين؛ فخسارة الورقة الفلسطينية من شأنه أن يضعف الوزن السياسي لأي من اللاعبين السياسيين، وهذا بالتالي فقدان لمحورية الأدوار التي هي بالأساس تعزز من قوتها في ظل حالة من التغير على جميع الساحات. 

وفي هذه الحالة، فإن مصر كدولة تحكمها الجغرافيا من جانب، والبعد القومي العربي والإسلامي من جانب آخر، يحتم عليها قراءة أي من تحركاتها تجاه القضية الفلسطينية بعموميتها، وأي من الأطراف الرئيسية لا سيما المقاومة بخصوصيتها؛ فالمقاومة وفي مقدمتها حماس هي مفتاح يستحيل تجاوزه عند طرق أبواب القضايا المركزية الفلسطينية.

* تطورات المنطقة وتحولاتها: ليس خافيا على أي مراقب عملية التحول الجذرية التي تصاحب الحراك في الدوائر الرئيسية بالمنطقة والتي من شأنها أن تستقر في نهاية مطافها على بلورة مشروع متكامل لا يمكن أن يتغافل القوى الثورية وقوى المقاومة باختلاف جغرافيتها؛ بل إن هذه القوى سيعتد في تجربتها في كثير من القضايا التي تعيد ترتيب المنقطة برمتها.

أولى مؤشرات هذا التحول حالة التقريب التي تتسم بها المملكة العربية السعودية في ظل ولاية الملك سلمان بن عبد العزيز آل السعود، والتي بدأت تأخذ من خلالها المملكة دورها الرئيسي في إعادة ترتيب العلاقة العربية البينية؛ سواء على مستوى حالة دول الخليج، أو محور العلاقة الإسلامية، أو محور العلاقة العربية الإقليمية، وهذا الأمر تجلى وضوحه في الحالة التي تعيشها اليمن؛ فهذا الموقف، وبغض النظر عن الأسباب الدافعة له، يؤسس لمرحلة الإصطفاف حول مشاريع الاعتدال الوسطي التي تمثل نموذجا في مفهوم مقومات المجتمعات التي تتوافق رؤيتها، وترفض محاولة تغذية المواقف المتطرفة.  

ولم تكن القضية الفلسطينية بمعزل عن هذه الرؤية، إذ أنه لا يمكن أن يتم تغافل طبيعة التحول في الموقف المصري تجاه المقاومة الفلسطينية بعيدا عن هذه القراءة، فالمملكة الراعية لاتفاق مكه، ودورها الواضح في دعم القضية الفلسطينية عبر تاريخها العميق، وفي المقابل علاقة المقاومة الفلسطينية وحركة حماس القائمة على الاحترام والعرفان لهذا الدور، يدفع باقي الأطراف ذات العلاقة لأن تعيد النظر بمواقفها تجاه المقاومة الفلسطينية، سواء أكان هناك رسالة مباشرة في هذا الإطار أو غير مباشرة.

المؤشر الثاني، والذي لا يقل أهمية عن الأول، هو الدور الإيراني في المنطقة والمشروع الذي ظهرت تجلياته في العراق وسوريا واليمن؛ وكذلك محاولات ترتيب العلاقة الإيرانية مع الدول الغربية التي قد ينتج عنها حالة من الاتفاق على البرنامج النووي يكون على حساب قضايا تمس الحالة العربية والإقليمية. وهو ما يعني إما التأثير على الدور الإقليمي والمحوري الذي تلعبه عدد من دول المنطقة والعمل على تغييبه وخاصة الدور المصري، أو الدفع باتجاه البحث عن لاعبين أكثر قوة وتأثيراً على الساحات الإقليمية والدولية كالدور التركي وغيره، وهو ما يعني ضياع الكثير من الأوراق من يد النظام المصري الحالي، خاصة تلك الأوراق التي تجعل منه نقطة التقاء كما في موقعه الجغرافي من القضية الفلسطينية.

المقاومة الفلسطينية في رؤيتها ودورها الذي تقوم به تسير في صوابية تجعل من المنهج الذي تتبعه في مقاومة الاحتلال يحوز على المشروعية التي تؤهله ليكون النموذج المستقبلي لحركات التحرر.   

المؤشر الثالث، والذي يمتد نحو العمق الدولي الغربي، تتجلى معطياته في الرؤية التي تتخذ من المقاومة الفلسطينية عنصراً رئيسيا في قراءة القضية، فالمراقب لهذه التحركات فيما يخص القضية الفلسطينية يجد من حركات المقاومة عنواناً لكثير من المبعوثين محاولين طرح رؤيتهم عليها والاستماع لمواقفها تجاه الكثير من القضايا. هذا إلى جانب طبيعة الرؤية القانونية التي باتت تتغير في الرؤية الأوربية تجاه المقاومة وحماس بشكل خاص والتي رسمها القرار القاضي برفع الحركة من قوائم “الإرهاب” الأوروبية.

هذا الأمر، يمكن أن يجعل من مصر، تقف أمام محورين هامين؛ الأول وهو ذهابها إلى محطات باتت الدول الغربية والأوربية والدولية تجد حرجا في تبنيها من المقاومة الفلسطينية كونها لاعبا رئيسيا في القضية الفلسطينية ولا يمكن تجاهلها، وبالتالي فإن بقاء مصر على موقفها يعمل على خسارتها في أي بلورة لرؤية مقبلة في هذا الإطار. والثاني في أن النظام المصري الجديد سيواجه بمعضلة تبرير أي خطوة قد يتخذها تجاه القضية الفلسطينية ابتداء من المواقف الأمريكية مرورا بالأوروبية والعربية وصول إلى الأطراف الفلسطينية الداخلية.

في الختام، إن الحديث في الأسباب التي جعلت من الموقف المصري الرسمي الحالي، الذي يتم إظهاره بغلاف إعلامي، أو من خلال أفراد في بعض المواقع، يتراجع عن تصنيفه لواحدة من أبرز حركات التحرر الوطني والمقاومة في التاريخ المعاصر بأنها حركة “إرهابية”، لا يمكن المرور عليها بمثابة أنه تصرف اتخذ بإجراءات اعتيادية، ولا يمكن أن يكون بمحض الصدفة أيضا كما اتخذ القرار نفسه. وهذا الأمر يزيد من دافعية اليقين في أن المقاومة الفلسطينية في رؤيتها ودورها الذي تقوم به تسير في صوابية تجعل من المنهج الذي تتبعه في مقاومة الاحتلال يحوز على المشروعية التي تؤهله ليكون النموذج المستقبلي لحركات التحرر.   

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات