السبت 06/يوليو/2024

حماس وإيران: رؤية تأسيسية

ساري عرابي

حينما انطلقت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في العام ١٩٨٧، في استجابة عبقرية من طرف الحركة الإسلامية الفلسطينية للحظة التاريخية التي تجلت في الانتفاضة الأولى، فإنها في جانب آخر من ظهورها مثلت ردًا عمليًا على انحدار الحركة الوطنية، وتقهقر مسيرة الثورة الفلسطينية، من بعد تجربتيها في الأردن ولبنان، وتبني خيار التسوية، وبهذا فإن حماس مثلت حالة ثورية متعددة الأبعاد، في مواجهة الاحتلال، وداخل الحركة الوطنية الفلسطينية، وداخل الحركة الإسلامية.

ولم تكن هذه الإضافة تعني فقط الانخراط في المقاومة ومعارضة السياسات الخاطئة للقيادة المتنفذة لمنظمة التحرير وحركة فتح والحدّ من ادنفاعاتها المدمّرة للقضية الفلسطينية، وإنما كانت تعني أيضًا أن تقدم حماس حالة تنظيمية جديدة ومختلفة، تستوعب تجربة الثورة الفلسطينية السابقة على حماس، وخاصة تجربة حركة فتح، بإعادة توظيف المقولات والسياسات الصحيحة، وتجنب تلك الخاطئة، كي تكون هذه الحالة التنظيمية في النتيجة قادرة على القيام بحركة المقاومة الجديدة، وتشكيل المركز الذاتي في حمل مهمات هذه الحركة بالغة الضخامة والخطورة والحساسية، وهو الأمر الذي كان يعني أن تكون الحركة الجديدة موحدة ومستقلة ومركزية وقادرة على التكيف مع الظروف الفلسطينية الخاصة المعقدة سواء في طبيعتها الذاتية، أو في موقعها من الصراعات الإقليمية والدولية.

يمكن القول أن حركة حماس ارتكزت بنجاح إلى بعض الشعارات التي رفعتها فتح في بداياتها، بينما لم تكن الممارسة الفتحاوية دائمًا متطابقة مع هذه الشعارات، والتي من أهمها: تحرير فلسطين طريق الوحدة العربية، وعدم التدخل في شؤون الدول العربية، وأن كل البنادق نحو العدو الصهيوني، وجرى تحويل هذه الشعارات من طرف حماس إلى سياسات فعلية، ودمجها عمليًا في إطار نظرية سياسية وتنظيمية، تتخذ فيها الثوابت والمقاومة موضع المحور، بينما تصير البنية التنظيمية ذات المركزية المتكيفة رافعة للحركة وأرضية لمهماتها، وفي هذا السياق كان لا بد من بنية تنظيمية تتسم بالوحدة والاستقلالية والمركزية، بما يحول دون تحول الحركة إلى ذيلية تابعة داخل التحالفات، أو للدول والمحاور، وبما يحول دون إقامة مراكز النفوذ علاقات دولية خاصة بمعزل عن القيادة المركزية، وبما يمنع هيمنة مراكز القوى داخل الحركة على ثوابتها. 

وإذا كانت حماس قد تمكنت، منذ نشأتها، من تجاوز الكثير من العقبات الموضوعية الضخمة، والإشكالات الذاتية الثقيلة، محتفظة بثوابتها وتماسكها واستقلالها، فإنها اليوم أحوج من أي وقت سابق للحصافة والحرص والحساسية الشديدة تجاه وحدة واستقلال الحركة، والتخلي عن الأنانيات الشخصية والجهوية، خاصة مع ظروفها الراهنة والتي يبدو فيها أن أهم الواجبات هي تلك الواجبات الممكنة، أي المتعلقة بإمكانات الحركة الذاتية، رغم ظروف الجغرافيا والحصار والعداء الإقليمي والدولي.

فمع أن الحركة استمرت في الحفاظ على تماسكها ومقاومتها، فإن تغيرات داخلية عميقة بدأت بالتشكل داخل الحركة من بعد انتهاء الانتفاضة الثانية، والتي انتهت على واقعين مختلفين في كل من الضفة وغزة، ففي الوقت الذي كان يعيد فيه العدو احتلال المناطق (أ) في الضفة الغربية فيما عرف بـ “عملية السور الواقي”، فإنه كان يتجه للانسحاب من مستوطنات قطاع غزة، وقد أفضى ذلك إلى تركيز قوة حماس التنظيمية داخل قطاع غزة، والذي يبدو أنه تحوّل إلى عامل أساسي لدى قيادة الحركة في غزة في الدفع نحو الدخول في الانتخابات التشريعية بكامل القوة وتشكيل الحكومة بعد ذلك، ورغم أن النتائج التي حققتها حماس في الضفة المحتلة كانت أحسن من تلك التي حققتها في غزة المحررة، فإن قوتها التنظيمية والعسكرية في قطاع غزة المحرر مكنتها بواسطة ما أسمته “الحسم العسكري” من الحفاظ على مكتسبها الانتخابي، والذي عززت نتائجه الارتباط المصيري لعموم الحركة بوجودها في قطاع غزة، بعد عمليات الاستئصال الممنهج والمزدوج ضدها في الضفة المحتلة، وبعد خروج قيادتها في الخارج من سوريا، وتبني الثورة المضادة في العالم العربي موقفًا عدوانيًا من الحركة.

كانت الثورات العربية، بما هي حركة تاريخية كبرى، حدثًا إقليميًا ودوليًا ضخمًا يفوق القدرات الذاتية للحركة التي تعاملت معه بقدر من الاستعجال والارتباك، خاصة في تعاطيها مع الضغوط المتباينة على موقعها من الحدث السوري، وفي تعويلها على النتائج العاجلة للثورات العربية، دون الأخذ بعين الاعتبار بأن طبيعة هذه الحركات التاريخية الكبرى تتسم بالتحول والسيولة والغموض بما ينبغي أن يمنع القفزات الإستراتيجية الواسعة، والتحولات الحادة في التحالفات.

وبصرف النظر عن أخطاء الحركة في تلك الفترة، ونسبة الذاتي من الموضوعي في الأزمة الراهنة، فإن هذه التجربة القاسية والعميقة توجب التأسيس عليها في ضرورة إعادة التوازن الداخلي للحركة، وبناء تصور واحد يراعي مجمل القضية، ويعيد تنظيم الأقاليم الثلاثة للحركة في إطار واحد وتكاملي، وبما يمنع إقامة العلاقات الخارجية بمعزل عن القيادة المركزية، وفي هذا السياق يأتي الحديث عن استئناف الحركة علاقاتها مع إيران، وبالضرورة مع أي جهة أخرى من حيث المبدأ، فإن فتح خطوط اتصال خاصة من طرف إقليم، أو أجهزة، أو مؤسسات، أو شخصيات قيادية، مع جهات خارجية، وبصورة خاصة وبمعزل عن الجسم القيادي، يعد اختراقًا لا يجوز التسامح معه في حالة حركة مقاومة تستند إلى تنظيمها ووحدتها واستقلالها ومناعتها في وجه الاختراق والاحتواء.

وقد أثبتت التجربة إزاء الموضوع السوري، أن الحركة ورغم الأخطاء التي حصلت في مقاربتها للموضوع السوري، وخاصة بعد خروجها من سوريا، قد كانت عصية على الاحتواء، ومتنبهة إلى أنها ذات مستقلة وليست ذيلاً تابعًا، وهو الأمر الذي لا بد من الحفاظ عليه في كل الأحوال حين استئناف العلاقات مع إيران، أو حين استمرار العلاقات مع تركيا أو قطر، أو أي بلد آخر، ولا يمكن في هذه الحالة التفريط بهذا المنجز الأساسي بحجة الاضطرار إلى المكان أو الدعم.

وهذا الموقف؛ سيعيدنا بالضرورة إلى القواعد الأساسية في صياغة رؤية الحركة وسياساتها، وإلى ما سبق لي وأسميته بـ (نظرية الثغور)، فإن موقع الحركة داخل الأمة، ومساهمتها في قضايا الأمة، يتمثل حصرًا في دورها داخل فلسطين، وبهذا فإن حماس تشكل الرابط الحيوي ما بين فلسطين والأمة، والعكس، وهو ما يعني أن سعي الحركة في بناء العلاقات، أو تحصيل الدعم، أو إقامة التحالفات، أو تحييد الخصوم، هو ضرورة لا بد منها لموقع الحركة على ثغرها الفلسطيني، ولا يصح في هذه الحالة أن تكون أية علاقة على حساب مهمتها في ثغرها، أو على حساب استقلالها في بنيتها التنظيمية، أو سياساستها الخاصة، أو تحالفاتها وعلاقاتها الدولية.

وإذا كانت علاقة حماس بإيران، كعلاقتها بأية جهة أخرى، تقوم على هذا الأساس، أي حشد الأمة لصالح مشروعها الجهادي في فلسطين، فإنه لا بد وأن تقرأ المرحلة سياسيًا بصورة صحيحة، حتى لا تعود الحركة للتعويل الخاطئ حيث لا مجال للتعويل، فإن المرحلة لا تزال سائلة ومفتوحة على احتمالات هائلة بما يوجب الأناة حين الإقدام على مبادرات على صعيد التحالفات وإقامة العلاقات الدولية، بل إن أفضل الخيارات في هذه المرحلة التي تتسم بالغموض الشديد هو الحفاظ على التوازن في علاقات الحركة الدولية، وبكلمة مباشرة: إن أفضل خيارات الحركة الآن هو إقامة علاقات متوازنة قدر الإمكان بين مضيفيها الحاليين في قطر وتركيا، وحلفائها السابقين في إيران، خاصة وأن الموقف الإيراني من الحركة لا يتعلق فقط بالخلاف حول الموضوع السوري، ولكنه يتعلق أيضًا بعلاقة الحركة بكل من تركيا وقطر.

حتمًا؛ فإن قدرة إيران على دعم حماس لن تكون كالسابق، على الأقل لأسباب اقتصادية، كما يفيد بعض الوسطاء ومنهم قيادات في حزب الله، وهذا ثابت بالنظر إلى تخفيض إيران دعمها لحلفائها، كحزب الله والجهاد الإسلامي، بنسبة ٦٠٪، وأيضًا حين ملاحظة توقف بعض المشاريع الإستراتيجية الكبرى في إيران، وذلك انعكاسًا للأزمة الاقتصادية التي تعانيها إثر انخفاض أسعار البترول، والذي قد تضطر لبيعه بأقل من السعر العالمي بسبب الحصار المفروض عليها.

لكن في الخلفية دائمًا بالنسبة للإيرانيين، وإضافة إلى الأسباب الاقتصادية، تكمن النظرة الإيرانية الخاصة بتحالفاتها، والتي تبدو سلبية تجاه حماس التي تصرفت كذات مستقلة في عدد من الملفات كان من أبرزها الموضوع السوري، فحتى لو كان تقييم أداء الحركة تجاه هذا الموضوع محل اختلاف داخلها، فإن تخليها عن استقلالها لا يجوز بحال أن يكون محل اختلاف.

وفي المقابل، فإن حماس وكما أنه لا يمكنها أن تكون جزءًا من المشروع الإيراني الخاص في المنطقة، فإنه لا يمكنها تحمل تبعات هذا المشروع، الذي يشتبك مع عدة جهات في الأمة في أكثر من مكان، وطالما أن فلسطين ومهمة الحركة داخلها هي العامل الحاسم في تحديد مستوى العلاقات الدولية وطبيعتها، فإن الذهاب بعيدًا في العلاقات مع أي جهة بما يستعدي عدة أطراف في الأمة لن يكون في صالح الحركة ومهمتها في فلسطين.

وإذا كان استئناف العلاقات مع إيران لا بد وأن يقوم على أسس صحيحة تقرأ المرحلة جيدًا وتتسم بالأناة وتتحلى بالتوازن والحفاظ على الذات المستقلة، فإن الأمر نفسه ينسحب على علاقتها بكل من تركيا وقطر، والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه في التعويل عليهما، بالنظر إلى موقعهما من النظام الدولي وبالتالي سقفهما وقدرتهما على احتمال حركة مقاومة تخوض صراعًا مسلحًا مع الكيان المغطى من هذا النظام الدولي، إلى الدرجة التي سمحت لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن يتحدث نيابة عن حماس بخصوص ثوابتها، حينما ادعى أن تركيا أقنعت حماس بالاعتراف بـ “إسرائيل” في إطار حل الدولتين!

هذا التوازن هو القرار الصحيح في هذه المرحلة بالذات، وهو خيار بالغ الصعوبة، ولكن صعوبته لا تلغي صحته. 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات