الثلاثاء 02/يوليو/2024

فإنهم يألمون

لمى خاطر
في غمرة هذا الألم الطاغي الساكن بين جنبات غزة بعد انتهاء حرب صمودها الأخيرة، انحصر تركيز العقول والأقلام وكاميرات الإعلام على جوانب وجعها ومظاهر بؤسها، خصوصاً مع تبخّر وعود ونوايا الإعمار، ووضع العصي في دواليب انطلاقه، في محاولات مستميتة لتجريد غزة من كل إمكانات العودة للمواجهة، لا سيما وأن جولتها الأخيرة قد أقلعت بالحلم الفلسطيني نحو مرافئ متقدمة للإياب، ودنت به من القناعة بحتمية يوم التحرير والعودة، وفي المقابل؛ ساهمت في تعرية الوجوه المقنّعة بالزيف والبهتان والتآمر.

ومع هذا الأسى المتراكم، تراجع الالتفات إلى ما صنعته المقاومة في صفوف المحتل، من أذى نفسي ومادي، ومن تحطيم لكثير من أساطيره وانتفاشة قوّته، واختار بعض (العقلانيين) أن يصدّروا للمشهد صورة الدمار الذي أحدثته الحرب للتدليل على أن خيار خوضها كان اجتهاداً خاطئاً أو مُكلفا، رغم أن المحتل هو من بدأ بالعدوان واضعاً جملة أهداف لحربه، ثم لم يحصد منها غير التدمير للمباني وإسالة شلال من الدماء، فيما لم تُحدث آلته الحربية الفتك في عتاد المقاومة وأنفاقها، وهو اليوم يتابع بقلق ودهشة التجارب الجديدة التي يشكّ في أن القسام يجريها على أسلحة نوعية جديدة.

وإن كان مطلوباً دائماً حضور العامل العقلي قُبيل المضي في جولة مواجهة مع المحتل، خصوصاً مع اختلال موازين القوى وفي ظل نظام عربي وإقليمي محارب للمقاومة، إلا أنه لا ينفع التسمّر عند دور البكاء على الأطلال والمبالغة في إظهار قدرات الفهم الخاصة بعد اندلاع الحرب، ثم بعد صمود المقاومة حتى الرمق الأخير. ذلك أن الدمار وتأخر الإعمار أمران متوقّعان في ظلّ حالة الاستثنائية والفرادة التي تمثّلها المقاومة في غزة بقيادة حركة حماس، وسط أمواج محيطة طاردة لها.

وهنا، ينبغي فهم تلك المعادلة التي قررتها الآية الكريمة (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون)، ولعل الشواهد على تألّم المحتل من هذه الجولة أوضح من أن يتم تجاهلها أو التهوين من شأنها عند مقارنتها مع قدرات الاحتلال العسكرية التي تتكفل بترميم خسائره الواقعة في وحدات نخبته أو جبهته الداخلية أو هيبة منظومته الأمنية. ولعلّ نقاط التفوّق الكثيرة التي سجّلتها كتائب القسام في مفاجآتها المتتالية تُظلم للغاية حين تنزوي خلف مشاهد الدمار المقيمة في غزة، والمراد لها أن تبقى مؤشّراً على كلفة المقاومة وأن تساهم في تعطيل التفكير بالاستثمار في الإعداد لجولات قادمة، قد تُفرض أيضاً على غزة كما فُرضت الحروب الثلاثة خلال ستة أعوام فقط.

وليس بعيداً عن الألم الحاصل في صفوف المحتل جرّاء حرب غزة، فإن حرب السكاكين التي بدأت في ضواحي القدس وبعض مناطق الضفة تشكّل الصورة المقابلة لحالة الاستنزاف المعنوية لجبهة المحتل، وإن كانت نخب هذه المواجهة قد سنّت طريقاً بيّناً لمن يريد المقاومة ولا يملك العتاد، فإنها من جانب آخر قد ضاعفت من تلك المساحات التي يتراجع من فوقها الحلم الصهيوني بالدوام على هذه الأرض، وهو ما يعني أن مضاعفة الألم في صفوفه سيقلل من فرص تمدّده ويفتك باستقوائه وغطرسته، وسيعجّل باقتلاع جذوره الخبيثة. هذا إذا كنا ما زلنا نؤمن فعلاً بأن الخيار الوحيد الواقعي في الحالة الفلسطينية هو العمل على إزالة الاحتلال، وليس تحسين ظروف التعايش معه.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات