السبت 10/مايو/2025

القدس تقرع جرس انتفاضة مفروضة

القدس تقرع جرس انتفاضة مفروضة

في إطار التحولات النوعية للاشتباك السياسي والميدانيالمفتوح والشامل بين الوطنية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإحلاليالإقصائي الذي يرفض قادته إنهاءه، ويصعب تصور رحيله من دون تحويله إلى مشروع خاسربالمعنى الشامل للكلمة، اندلعت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى في 9 ديسمبر/كانون الأول 1987.

هنا تعهد الجنرال الصهيوني رابين، وزير حرب العدو آنذاك،ب”إنهاء أعمال الشغب خلال ثلاثة أيام”. لكن جيش الاحتلال وأجهزتهالأمنية عجزاً عن إخماد تلك الانتفاضة كمبادرة شعبية هجومية شاملة وممتدة لإنهاءالاحتلال بمظاهره السياسية والعسكرية والأمنية والاستيطانية وانتزاع “الحريةوالاستقلال”. في حينه واجه قادة الاحتلال سؤالاً سياسياً استراتيجياً، جوهره:كيف السبيل لإجهاض تلك الانتفاضة كحدث قائم وكاستراتيجية مقاومة قابلة للتكرار،واستطاعت بطابعها الشعبي الواسع تحييد الكثير من عوامل قوة جيش الاحتلال بترسانتهالعسكرية الهائلة والتكنولوجية المتطورة، وتكبيده خسائر مادية باهظه، والتفوق عليهوإحراجه سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً؟

في العام 1988، ذروة الانتفاضة، طرح حزب العمل الصهيونيبقيادة رابين فكرة إخراج جيش الاحتلال من وسط التجمعات السكانية الفلسطينيةالكبيرة باستثناء القدس، بغرض تخفيف الأعباء الأمنية للاحتلال. وبعد فوز الحزب فيانتخابات 1992 فتح قناة تفاوض سرية مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لتمريرفكرته، بل خطته، نجح في جرها إلى توقيع “اتفاق أوسلو”، وإدارة”سلطة فلسطينية انتقالية” تحت الاحتلال الذي تخلص بذلك لا من أعبائهالأمنية، فحسب، بل من أعبائه السياسية والإدارية والمالية والأخلاقية، أيضاً.

هنا ظن قادة العدو أنهم بإنهاء الانتفاضة”الأولى” كحدث، وبتموضع جيشهم عند بوابات مدن الضفة ومستوطنات قطاع غزة،قد نجحوا في السيطرة على التجمعات السكانية الفلسطينية الكبيرة، وفي إجهاض وتصعيبممكنات تكرر الانتفاضة كاستراتيجية مقاومة شعبية، لكن النتيجة معاكسة لما خططواوظنوا، عندما تطورت الهبة الجماهيرية التي أعقبت زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصىفي سبتمبر/ أيلول 2000 إلى انتفاضة شعبية حولها إدماء موجتها الأولى على يد جيشالاحتلال المتمركز عند بوابات المدن إلى انتفاضة مسلحة أجبرت شارون في العام 2005على فك الارتباط العسكري والاستيطاني من طرف واحد مع قطاع غزة، ظناً منه أيضاً أنهبهذه الخطوة التي كان يفترض استكمالها ب”خطة الانطواء” من طرف واحد فيالضفة بعد اجتياحها وبناء جدار التوسع والضم فيها، يزيد منسوب سيطرة الاحتلال علىالفلسطينيين، ويقلص خسائره وأعباءه إلى درجة أكبر وبالمعنى الشامل للكلمة، لكنالحصاد هنا جاء أشد مرارة، حيث اضطرت فصائل المقاومة في القطاع إلى تهريب وتطويروابتكار وسائل قتالية نوعية، صاروخية خصوصاً، مكنتها من إسقاط نظرية الاحتلال”عن بعد”، وإفشال حروبه العدوانية وتحقيق إنجازات ميدانية، بلغت ذروتهافي حرب التدمير والإبادة الجماعية المبيتة الأخيرة.

والآن، بعد 21 عاماً على توقيع “اتفاق أوسلو”ونشوء فكرة إمكان استمرار الاحتلال “عن بعد”، ينتهج أركان أشد حكوماتالاحتلال تطرفاً سياسة هجومية بلغت أوجهها في المجاهرة بأطماعهم وشروطهم الصهيونيةلفرض “حل إقليمي” يستثني جوهر الصراع، قضية الشعب الفلسطيني وحقوقهالوطنية والتاريخية، ويلبي ناظم الشروط الصهيونية كافة المتمثل في شرط أن لا إنهاءللصراع من دون إسقاط حق عودة اللاجئين و”الاعتراف ب”إسرائيل” دولةللشعب اليهودي”. أما عن التصعيد الميداني النابع – بالضرورة – من التصعيدالسياسي فحدث ولا حرج.

فمن سعار مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، إلى فلتانعصابات المستوطنين وتصعيد اعتداءاتهم على حياة فلسطينيي الضفة ومزروعاتهم وبيوتهموممتلكاتهم ومقدساتهم، إلى جنون الهجمة غير المسبوقة على القدس لحسم معركتها،أرضاً وسكاناً وبناءاً عمرانياً ومصادر رزق ومناهج تعليم ومقدسات، في مقدمتهاالمسجد الأقصى المراد تقسيمه مكانيا وزمانياً وإنهاء الولاية الأردنية عليه،تمهيداً لهدمه كما يدعو غلاة الجناح الصهيوني الديني، إلى تغيير قواعد الاشتباكبإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، وتكثيف حملات الاعتقال، والإداري منهبالذات، وزيادة العقوبات الجماعية بأشكالها، ورفع منسوب التنكيل بالأسرى، بما يذكربإجراءات الاحتلال الأمنية التي أدت إلى انفجار الانتفاضة “الأولى” في 9ديسمبر/ كانون الأول 1987.

عليه، لم يعد السؤال لماذا تتلاحق الهبات الجماهيريةالفلسطينية على مدار السنوات الماضية، إنما لماذا لم يتحول أي منها إلى انتفاضة شعبيةشاملة وممتدة، بما فيها هبة القدس المتواصلة منذ يونيو/حزيران الماضي، والمتسمة،شكلاً ومضموناً، بملامح الغليان الشعبي الذي سبق انفجار انتفاضة (1987-1994)؟

هنا سؤال منطقي ومشروع يجد إجابته أولاً وأساساً في عدمتوافر الشرط القيادي الوطني الموحد المستعد والجاهز، ارتباطاً باستمرار الانقسامالداخلي المدمر الذي لم ينته بتشكيل “حكومة التوافق” الشكلية، وباستمرارالرهان على خيار المفاوضات المثقل بالتزامات سياسية وأمنية واقتصادية، بضمنهاالتزامات “التنسيق الأمني” و”التهدئة” التي تحبط الهباتالجماهيرية، بوصفها التزامات من طرف واحد، وبلا مقابل سياسي، ولو في حدود تجميدعمليات مصادرة الأرض الاستيطان والتهويد، أو تخفيف حدة جرائم الاحتلال الماثلة فيالعقوبات الجماعية والقتل والجرح والاغتيال والاعتقال وتقطيع الأوصال واستئصالمقومات الهوية الوطنية وتدمير المنازل والممتلكات وانتهاك المقدسات والتنكيلبالأطفال حد إحراق أحدهم حياً وإطلاق النار على بعضهم ودهس بعض آخر منهم و… منالجرائم التي لا يرتكبها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، فحسب، بل وعصابات مستوطنيهالفالتة من كل عقال، أيضاً. لذلك لا عجب في القول: فقط بالمعنى الزمني يمكن تأخيرانفجار انتفاضة فلسطينية “ثالثة” صارت استحقاقاً سياسياً مفروضاً بمعزلعن الأشكال التي ستتخذها. فمرحى للقدس وهي تقرع الجرس وتتقدم الصفوف بهبتها البطلة.

صحيفة الاتحاد الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات